(1)
على مدى ساعة ونصف الساعة تقريبًا استمعتُ، واستمتعتُ، بلقاء فكرى رائع مع المفكر والمحلل السياسى الكبير سمير مرقص، تحدث فيه عن «ثقافة المواطنة والهوية» والفروق بين الأجيال وأثر الذكاء الاصطناعى على هذه القيم الآن وفى المستقبل، وتطرق فيه إلى عديد الظواهر السياسية والثقافية والاجتماعية التى طرأت -وتطرأ- على الساحة العالمية، وفى مصر والإقليم كله، فى ظل السيولة الرقمية الرهيبة التى نحيا فى ظلها خلال السنوات العشر الأخيرة!
أدار اللقاء الكاتب الصحفى هانى لبيب، رئيس تحرير موقع مبتدأ الإلكترونى، وأجاد فى فتح مسارات الحديث متنقلًا بين الذاتى والموضوعى، وكان ينقل دفة الحوار ببراعة بين المتحدث الرئيسى (سمير مرقص) وحضور اللقاء.
(2)
من بين أبرز ما أشار إليه الكاتب القدير، الطفرات الجيلية فى العقود الثلاثة الأخيرة، منتبهًا وبشدة إلى الكيفية التى تتشكل بها مصادر المعرفة لدى هؤلاء (بالتحديد بدءًا من مواليد العقد الأول من الألفية الثالثة) وحتى مواليد الأعوام الثلاثة الأخيرة (بعد 2021). راصدًا بذكاء شديد اختلاف سياقات تشكل الهوية، بين مواليد عقود الثمانينيات والتسعينيات، وبين ما بات يعرف بجيل Z (مواليد العقد الأول بعد سنة 2000) ثم جيل «ألفا» (مواليد العقد التالى، وتحديدًا بعد 2010)، وأخيرًا جيل «بيتا» (وهم مواليد السنوات الثلاث أو الأربع الأخيرة).
يرى سمير مرقص أن مواليد الجيلين الأخيرين مختلفين تمامًا فى القدرة الإدراكية، وتشكل أنساق القيم، وامتلاك مصادر المعرفة «غير التقليدية»، فالجيلان الأخيران هما جيل «الذكاء الاصطناعى» بامتياز. وهما أيضًا جيلان يشكلان هويتهما، كل بطريقته الخاصة، بعيدًا عن أو بمعزل عن مؤسسات التنشئة التقليدية؛ الممثلة فى البيت والجامعة والمؤسسة الدينية.
فمنذ سن الرابعة أو الخامسة يبدأ أبناء هذا الجيل فى التعرف على العالم من خلال الوسائط الحديثة التى لم تكن ظهرت ولا أتيح استخدامها لأبناء الأجيال السابقة، فقد كانت نشأة هذه الأجيال (يقصد هنا أجيال ما قبل سنة 2000) متصلة اتصالًا وثيقًا بمؤسسات التنشئة الاجتماعية والتربوية والثقافية التقليدية.. انتفى ذلك كله فى العقد الأخير، وصارت الهيمنة بل التأثير المضاعف من خلال وسائط المعرفة الحديثة، وشبكات الاتصال الرقمى المهولة، وما إلى ذلك من مصادر وتطورات.
إن أبناء هذا الجيل يمارسون تفكيك المرجعيات التقليدية، ومصادر الثقافة والتلقى التقليدية، سواء وعوا بذلك أم لم يعوا، معتبرًا أن زر البحث «السيرش» هو مفتاح هذا العالم، وكلمة السر فى صياغة معارفه وقيمه وأفكاره الكبرى أو غيرها.
(3)
لعل من بين أهم مزايا الاستماع المباشر لمثقفين ومفكرين كبار، هى تلك الإضاءات العميقة الرصينة المكللة بالحكمة، وسنوات الخبرة والنضج ومساحات التسامح وقبول الآخر التى تصير سلوكًا وممارسة قبل أن تكون قناعة نظرية وفكرية ندعو لها ونحث عليها وندافع عنها!
كان المحور المركزى للندوة عن «سؤال الهوية فى العالم العربى.. من أين نبدأ»، الذى اتسع ليشمل أيضًا سؤالًا أو أسئلة أخرى -متفرعة عن السؤال الرئيسى- عن تحدى الهوية الرقمية، والدينية، وكيفية التعامل معها.
مضى النصف الأول من اللقاء حول استعراض المحاولات التى قدمها سمير مرقص فى بحثه عن إجابات لهذا السؤال الشائك «الإشكالى» على مدى العقود الثلاثة الأخيرة؛ وقد فصل هذه الإجابة فى العديد من كتبه ومقالاته وأبحاثه التى توجت بكتابه الأخير «المواطنة والهوية ـ جدل النضال والإبداع فى مصر» فى طبعته المزيدة والمنقحة (584 صفحة)، الصادرة عن دار عين للنشر، 2024.
تقوم دعائم هذا المشروع الفكرى الطموح على رسم بانوراما ممتعة تتنقل بتمكن ورشاقة بين المفاهيم والمصطلحات التى تدور فى فلك «المواطنة» ونظرياتها وتطوراتها المعاصرة، وإشكالية البحث عن «الهوية» فى ظل التحديات العالمية الراهنة وفى ظل تطورات العولمة والكونية المتسارعة فى العقود الأخيرة، ويكون هذا التأسيس هو القاعدة التى ينطلق منها للقيام بمراجعات تاريخية وحضارية وثقافية (فنية وأدبية وإبداعية) وافرة العمق والذكاء والأهمية، تطرح أسئلتها التى تحمل همومنا الراهنة، وتجليات ذلك كله، ومظاهره، فى مسارات الإبداع والثقافة المصرية، خلال القرنين الأخيرين.
(4)
لا يُسرف مؤلف الكتاب فى عرضِ تأصيله النظرى المهم بتتبعه أبرز التعريفات والمفاهيم التى تحدد الإطار المعرفى لتناول الظواهر التى سيتعرض لها لاحقًا؛ صحيح أنه لا يفارق الدقة والتوثيق اللذين عرفا وشهرا عنه؛ لكنه أيضًا لا يستغرقه البحث النظرى ليلتهم أكثر من ثلثى الكتاب، كما فى دراسات وكتب عديدة تقع فى هذا الفخ، وتستسلم له على حساب عملية القراءة والتحليل.
بمُجرد الفراغ من الجزء النظرى، سيبدأ سمير مرقص فى استعراض بانورامى مثير للإعجاب والاحترام؛ لشخصياتٍ، مفكرين ونقادًا ومثقفين، وكتبًا فكرية، وأعمالًا روائية، ومسلسلات درامية، ولوحات فنية.. إلخ ستشكِّل فى مجموعها فسيفساء رائعة لا يصل بينها إلا ما تقدمه من رؤى وأفكار عن «المواطنة»؛ باعتبارها القاعدة الأساسية لأى تعايش سلمى وحقيقى بين أفراد تظلهم سماء أرض واحدة لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات دون أى تمييز.
(وللحديث بقية)