مصر تمر الآن بمتاعب اقتصادية جمَّة، لا ينكرها أحد ويشعر بها الجميع، مع اختلاف بالطبع فى درجة المعاناة. الفقراء ومحدودو الدخل يعانون من ارتفاع الأسعار وندرة بعض السلع الضرورية وتضاؤل فرص العمل والكسب. والطبقة الوسطى تشكو أيضا من ارتفاع الأسعار بالإضافة إلى البطالة، والطبقة الأعلى تشكو من تضاؤل فرص الربح والاستثمار، والجميع يخافون مما قد يأتى به المستقبل.
يحاول بعض المسئولين التخفيف من خطورة الأزمة بالقول بأنها فقط «أزمة سيولة». والحقيقة أنى لم أستسغ قط استخدام هذا التعبير لوصف أزمتنا الحالية. «فانعدام السيولة» له أشكال وألوان، بعضها يمكن أن يكون مبررا للقلق الشديد، إذ كثيرا ما يكون من المستحيل حل مشكلة السيولة إلا بتضحيات كبيرة. إن المعدم الذى لا يجد ثمن رغيف الخبز قد يصف مشكلة بأنها «مشكلة سيولة»، وصاحب الأرض الزراعية الذى أصابت محصوله آفة فقضت عليه، يواجه أيضا مشكلة سيولة قد لا يمكن حلها إلا ببيع الأرض بسعر بخس. وقد نصح البعض الحكومة المصرية فى أوائل الثمانينيات، عندما عجزت مصر عن سداد ديونها ودفع فوائدها، بأن تبيع ما لديها من تحف وكنوز فنية، بل وذهب البعض إلى حد اقتراح بيع قناة السويس. وكان هذا كله من قبيل حل مشكلة «السيولة»، ولحسن الحظ لم يؤخذ بأى من هذه المقترحات. وخلال الأزمة العالمية الكبرى فى الثلاثينيات، كانت المصانع والآلات والعمالة المدربة كلها موجودة كما كانت قبل الأزمة، ولكنها كانت متوقفة عن العمل بسبب «أزمة السيولة»، لانقباض أيدى المستهلكين والمستثمرين عن الانفاق.
متاعب مصر الاقتصادية الراهنة أكثر إذن من أن تكون مجرد أزمة سيولة، ولكن من المفيد التمييز بين ثلاثة أنواع من هذه المتاعب، إذ إن كلا منها يتطلب حلولا مختلفة عن حلول النوعين الآخرين.
النوع الأول، من متاعب مصر الاقتصادية الحالية يتكون من متاعب حقيقية وجسيمة، ولكنها أيضا قديمة. هذه المتاعب لم تحدث بسبب الثورة، فهى تعود إلى الوراء لسنوات كثيرة قبل الثورة. هذه المتاعب نتجت فى رأيى عن تراكم سياسات اقتصادية حمقاء استمرت نحو أربعين عاما.
والنوع الثانى، متاعب نتجت عن الثورة، ولكنها نتائج طبيعية يجب توقع حدوثها فى أعقاب أى ثورة، وقد كان من السهل والواجب توقعها، كما أنه كان من الطبيعى أن تزول بعد فترة قصيرة من قيام الثورة.
أما النوع الثالث، وهو الذى اعتبره «مدهشا»، فيشمل تلك المتاعب التى نتجت، لا سبب الثورة، ولكن بسبب ما تتخذ من إجراءات بعد الثورة كان من الواجب والممكن تجنبها، أو بسبب عدم اتخاذ إجراءات معينة بعد الثورة، كان من الواجب والممكن اتخاذها.
أريد الآن أن أقول بضع كلمات عن كل من هذه الأنواع الثلاثة من المتاعب.
أما النوع الأول، فيشمل استمرار معدل منخفض لنمو الناتج القومى، واستمرار ونمو تفاوت فظيع فى الدخول، ومعدلا عاليا جدا من البطالة، واستمرار الاختلال الكبير فى الميزان التجارى، وفى موازنة الدولة.
لقد قدمت تفسيرات مختلفة لتفاقم هذا النوع من المتاعب، ولكنى أميل إلى إلقاء اللوم فى ذلك على ما بدأ تطبيقه من سياسات اقتصادية منذ أوائل السبعينيات، واستمرت دون أى تغير مهم حتى ثورة 25 يناير. هذه السياسات يمكن الإشارة إليها اختصارا بعبارة «الانفتاح الاقتصادى» غير المنضبط، ولكنها تشمل أكثر من مجرد فتح الأبواب دون تميز كاف أمام التجارة والاستثمارات والمعونات الأجنبية، إذ تشمل أيضا نكوص الدولة عن القيام بكثير من واجباتها فى التنمية والرقابة، وعلاج ما ينتج عن النشاط الخاص من خلل فى مجالات الاستثمار وتوزيع الدخل، وسد ما تركه النشاط الخاص من ثغرات.
والذى أقصده بالنوع الثانى من المتاعب، وهو ما وصفته بالمتاعب «الطبيعية»، التى يتوقع أن تقترن بأى ثورة، هو ما حدث بسبب ما أشاعته الثورة من مناخ من عدم الاستقراء، وتراخى السيطرة على الأمن بسبب التغيير المفاجئ فى الممسكين بالسلطة. لم يكن غريبا إذن أن تنخفض الإيرادات من السياحة، ويخفض معدل الاستثمار المحلى والأجنبى، ومن ثم انخفاض معدل الناتج القومى، وارتفاع معدل البطالة، وانخفاض الإيرادات الحكومية ومن ثم زيادة عجز الموازنة العامة، والانخفاض فى تحويلات العاملين بالخارج، ومن ثم النقص الكبير فى احتياطى العملات الأجنبية، وانخفاض سعر الصرف وارتفاع الأسعار.
ليس هناك شىء غريب فى هذا كله، أما المدهش (وهنا نصل إلى النوع الثالث)، فهو استمرار المتاعب التى خلقتها الثورة طوال هذه المدة دون أن تظهر أى بادرة على بداية انحسارها. فها قد مضى أكثر من عام على قيام الثورة، وعلى نجاحها فى تنحية رئيس الجمهورية، ولازالت حالة الأمن سيئة للغاية، بل وربما أصبحت أسوأ مما كانت عليه فى الأسابيع الأولى للثورة. ومن ثم لم يطرأ أى تحسن على أى نوع من أنواع النشاط الاقتصادى التى تدهورت بسبب تدهور الأمن: لا السياحة ولا الاستثمار المحلى ولا الأجنبى، ولا بدت أى بوادر تبشر بانخفاض عجز الموازنة أو ميزان المدفوعات، ومن ثم استمر الارتفاع فى معدل التخضم وتكرر حدوث ندرة فى بعض السلع الأساسية. ومن الواضح أن الممسكين بالسلطة بعد الثورة، لم يقوموا بما كان يجب عمله لتطمين السياح أو المستثمرين أو ضبط الأسعار أو خلق فرص جديدة للعمالة.
قد يقال إن هذه الفترة هى بطبيعتها «فترة انتقالية»، بين حكم ديكتاتورى طويل العهد وبداية الحكم الديمقراطى، بما يتطلبه ذلك من انتخابات للمجلسين النيابيين ورئيس للجمهورية، وتعديلات دستورية ثم وضع دستور جديد، فلا عجب من استمرار الانفلات الأمنى وتدهور الاقتصاد. ولكن هذا القول يجب رفضه تماما لأكثر من سبب.
فأولا: طالت الفترة الانتقالية أكثر من اللازم، وأكثر مما وعدت به السلطة الجديدة فى البداية.
وثانيا: ليس من الواضح لماذا يؤدى الانتقال من حكم ديكتاتورى إلى حكم ديمقراطى إلى استمرار المشكلات الأمنية والاقتصادية فى ظل ما انتجته الثورة ونجاحها فى تنحية الرئيس، من مناخ عام من التفاؤل والرغبة فى التعاون والتضحية من أجل إعادة بناء الوطن من جديد.
وثالثا: لم تكتف السلطة الجديدة بالتراخى فى ضبط الأمن، والتلكؤ فى إشاعة الشعور بالاستقرار، بل فعلت ما من شأنه زيادة حالة الأمن سوءا وزيادة الشعور بعدم الاستقرار.
فاختيار المسئولين الجدد عن الأمن (بل واختيار رؤساء الحكومة أنفسهم) الواحد بعد الآخر، شابته أخطاء جسيمة تكاد توحى بتعمد الاختيار السيئ. ونفس الملاحظة يمكن أن تقال عن اختيار المسئولين عن الإعلام الذين بدوا وكأنهم يتعمدون زيادة النار اشتعالا. والأسوأ من ذلك تقصير فادح فى التعامل مع أحداث الفتنة الطائفية، بعد أن بدا فى الأيام الأولى للثورة، من أن من الممكن لمصر أن تدخل عهدا جديدا يزول فيه أو يضعف بشدة التوتر الطائفى. بل بدا أيضا وكأن الممسكين الجدد بالسلطة قد قاموا عمدا بتشجيع قوى سلفية لم يكن لها وجود سياسى على الاطلاق قبل الثورة، وكان نشاطها مقصورا على الدعوة الدينية أوالنشاط الاجتمناعى، فإذا بها يفسح لها المجال لزيادة التوتر بين ما يسمون بالسلفيين والعلمانيين. أضف إلى هذا كله مواقف غير مفهومة البتة من جانب الممسكين بالسلطة تجاه الحصول على مساعدات اقتصادية خارجية، سواء من صندوق النقد أو البنك الدولى أو الحكومات العربية، بل وحتى تجاه المعونة الاقتصادية الأمريكية. إذ ما هذا التضارب والغموض فى التصريحات الرسمية حول هذه المساعدات؟ هل نريدها أو لا نريدها؟ هل الرفض أو التلكؤ من جانبهم أم من جانبنا؟ وما هذا الكلام المفاجئ عن أن المعونة الأمريكية تهدد استقلالنا وحرية إرادتنا؟ فلماذا إذن قبلناها طوال الأربعين عاما الماضية؟ والممسكون الحاليون بالسلطة كانوا على أى حال من بين الممسكين بالسلطة على الأقل طوال العشرين عاما الماضية. إن التحول المفاجئ من التبعية إلى الاستقلال، إذا كان هذا هو المقصود حقا، يحسن على أى حال تأجيله قليلا إلى ما بعد هذه الفترة الانتقالية الصعبة، ومن الممكن ترك البت فيه للمنتخبين من أعضاء البرلمان الجدد، ورئيس الجمهورية الجديد.
كذلك كان الأولى بالممسكين بالسلطة، فى هذه المرحلة الانتقالية، اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة فورا لمنع المعزولين من السلطة من تهريب الأموال للخارج، والعمل على تجميد ما تم تهريبه منها حتى تقوم مصر باسترداده، فتساهم هذه الأموال على الأقل فى التخفيف من حدة المتاعب الاقتصادية التى تأتى فى أعقاب الثورة. ولكن هذه الإجراءات لم تتخذ، بل بدا وكأن المعزولين عن السلطة قد مُنحوا (بل ولايزالوا يُمنحون) الوقت اللازم لتهريب ما يريدون تهريبه، بينما تستمر الحالة الاقتصادية فى التدهور.
بينما يحدث ذلك لم تظهر هناك أى رغبة لدى الممسكين بالسلطة فى تقصير الفترة الانتقالية، بالإسراع بوضع دستور جديد، وانتخاب مجلس نيابى جديد، وإلغاء مجلس سورى يسمى «مجلس الشورى»، بل يُدفع الناس دفعا للانشغال بأمور لا لزوم لها، كالاستفتاء على تعديل بعض مواد الدستور بدلا من وضع دستور جديد، وكتشكيل لجنة بعد أخرى للحوار، أو بطرح وثيقة بعد أخرى للنقاش ثم يُنسى أمرها تماما، وعندما يزيد غضب الناس ومللهم، يشكل مجلس يسمى «المجلس الاستشارى»، يتضح بعد بضعة أيام أنه لا فائدة منه، وأن عدد الأعضاء المستقلين منه لا يقل كثيرا عن عدد الباقين فيه. وأثناء هذه الحوارات التى لا تسفر عن أى نتيجة، تثار بعض الموضوعات الاقتصادية، فلا يجرى التمييز فيها بين المشاكل الحالة والعاجلة، التى تجوز مناقشتها فى المرحلة الانتقالية، ومشاكل المدى الطويل التى يحسن تركها لمن ينتخبم الشعب. فيكثر الكلام عن العدالة الاجتماعية والضرائب التصاعدية، والحد الأدنى والحد الأقصى للأجور ومشكلة الدعم..الخ، وهى كلها مشاكل قديمة يحتاج حلها إلى تحديد الاتجاه الجديد للحكم بعد الثورة، بينما يجب التركيز الآن على حل المشاكل الاقتصادية الحالة (وما يتطلبه من حل مشكلة الأمن) كإعادة النشاط للسياحة، وتطمين المستثمرين، وتشغيل المصانع المتوقفة، والبت الفورى فى المطالب الفئوية العاجلة ومنع استفحال مشكلة البطالة.
●●●
من المؤكد إذن أن متاعبنا الاقتصادية الحالية (مثل متاعبنا السياسية) ليست نتيجة طبيعية للثورة، بل والأرجح أيضا أنها ليست مجرد «السهو الخطأ»، بل هناك من الدلائل ما يشير إلى أنها متاعب متعمدة، لتحقيق هدف أو أهداف لم تتضح بعد.