الإصلاح الفاشل ينتج ثورة. إنها قاعدة سياسية ذهبية أكدتها ثورة مصر المجيدة. اجتهد جمال مبارك ومجموعته فى محاولة «لإصلاح» نظام يوليو الاستبدادى المتحلل الذى وصل إلى طريق مسدود فى أوائل الألفينيات. فسياسات «التحرير الاقتصادى» التى انطلقت فى بداية التسعينيات برعاية صندوق النقد الدولى والتى حققت بعض النجاح فى السيطرة على التضخم وعجز الميزانية وفى تشجيع بعض الاستثمارات الخارجية كانت قد وصلت إلى نهايتها ودخل الاقتصاد المصرى فى مرحلة ركود. مضمون إصلاحات جمال مبارك هو تسريع التحول الرأسمالى فى الاقتصاد، وتقوية الذراع السياسية للنظام المتمثل فى الحزب الوطنى من خلال فتح بعض منافذ التهوية لكى تساعد الحزب الحاكم على التحول بالفعل إلى حزب حقيقى كما من خلال الدفع بمجموعات من رجال الأعمال لقيادته لكى يتحول الوطنى من حزب البيروقراطية المأزومة إلى حزب الرأسمالية الصاعدة. بتبسيط شديد مشروع جمال مبارك هو إعادة صياغة التحالف الحاكم لكى يصبح تحت قيادة مجموعات رأسمالية وحزب وطنى جديد وجهاز شرطة متغلغل ومتوحش.
تطلبت إصلاحات جمال مبارك وأعوانه مجموعة من التغييرات الخطيرة أدت فى النهاية إلى تشققات فى المجموعة الحاكمة كما إلى تكثيف المعارضة ضده ومن ثم الإطاحة به وبأبيه. فمقتضيات تسريع التحول الرأسمالى اصطدمت بحاجة المؤسسة العسكرية إلى الإبقاء على بعض السيطرة البيروقراطية على الاقتصاد لكى تحافظ على نصيبها منه. فالجيش فى النهاية هو جزء من البيروقراطية وعمودها الفقرى. بالطبع لم يكن جمال مبارك يسعى لإقصاء الجيش من المعادلة الاقتصادية، ولكن يبدو أن المؤسسة العسكرية فضلت ألا تترك له العنان لكى يتفضل عليها بالامتيازات التى يراها مناسبة. ومقتضيات تنمية الجناح السياسى للنظام ــ الحزب الوطنى ــ حتمت إطلاق عنان جهاز الشرطة لكى يتوحش ويعربد. فالحزب الوطنى ما كان قادرا على المنافسة النزيهة مع خصومه خاصة الإخوان المسلمين. ويبدو أن مقتضيات إعادة صياغة السياسة الخارجية لمصر لكى تتكيف مع التحول الرأسمالى وجذب الاستثمارات الأجنبية كانت تدفع فى تقليص محورية قضية إسرائيل وفلسطين (انظر مقالات عبدالمنعم سعيد) بما يعنيه ذلك من تخفيض لمحورية جهاز المخابرات فى النظام السياسى.
إصلاحات جمال مبارك أدت إلى تقلص التأييد لمبارك داخل البيروقراطية العليا، فى نفس الوقت الذى لم تستطع فيه تنمية تأييد كافٍ له من خارج الدولة، حيث انحصرت الجماعات المساندة لجمال مبارك فى شريحة ضيقة من الرأسماليين الكبار وشريحة أخرى من الطبقات المتوسطة العليا التى استفادت من السياسات الاقتصادية للفكر الجديد ونظرت لجمال مبارك على أنه فرصة لتحديث نظام يوليو بشكل سلس، وأخيرا شريحة ضيقة من البسطاء الذين حصلوا على بعض الفتات والحسنات من خلال جمعيات المجتمع المدنى التى كان جمال وأمه يرعاها.
●●●
الثورة المجيدة قامت لكى تسقط النظام كله باستبداده وعنفه وعفنه وكذبه. وقد واجهها مبارك فى البداية بجهاز الشرطة. ولكن بهزيمة الشرطة أمام بسالة الثوار لم يعد أمام مبارك إلا محاولة لم شتات تحالفه الحاكم لتوحيده أمام عاصفة الثورة. هكذا كان عليه أن ينحى ابنه وشلته الرأسمالية من القيادة وأن يدفع بجنرال هو اللواء عمر سليمان إلى عجلة القيادة ليطمئن الجيش على مستقبله ويحافظ على مساندته للرئيس. الثورة أدت إلى تغييرات فى موازين القوى داخل التحالف الحاكم لصالح الجيش وربما المخابرات. لكن ذلك لم يكن يكفى لاحتواء الثورة المشتعلة فى الشارع. فكان لابد من تقديم بعض التنازلات والترضيات. لذلك سارع اللواء عمر سليمان للقاء قيادات الإخوان المسلمين وقدم لهم تنازلا تاريخيا يعترف بحقهم فى تأسيس حزب سياسى والمشاركة فى الحكم. أما القوى الثورية غير الإخوانية فقد تم تصنيفها سريعا باعتبارهم «شبابا طاهرا ونبيلا» تم الاعتراف بشرعية مطالبهم، لكن طُلب منهم أن ينصرفوا لكى يتركوا «الكبار» يعملون.
كان يمكن للثورة أن تنتهى عند هذا الحد على أساس أنها أجهضت مشروع التوريث وحالت دون تولى مبارك لفترة أخرى تضعه على كرسى الحكم لكى يصل فيه إلى تسعين عاما. لكن سرعان ما انطلقت الهتافات المدوية فى الشارع مطالبة بسقوط مبارك وسليمان معا، تلك الهتافات التى شاركت فيها بعض قواعد الإخوان غير المعنية بالاتفاقات الفوقية لقياداتها. هكذا نجحت الثورة فى توجيه ضربة قاصمة للسيناريو الروسى والذى بمقتضاه اتفقت بعض قيادات المعارضة المتخاذلة، وعلى رأسها بعض قيادات الإخوان مع النظام على فتح الطريق أمام اللواء عمر سليمان لكى يتولى الرئاسة، مثلما اتفقت المجموعة الحاكمة الروسية على استدعاء رئيس جهاز المخابرات لكى يتولى الرئاسة، وهو الأمر الذى جعله يحكم لفترتين، و«يتقاعد» قليلا فى مقعد رئيس الوزراء لكى يعود من جديد إلى كرسى الرئاسة منذ نحو شهر. بالمناسبة الكثير من القيادات الحالية للقوات المسلحة تلقت بعض تعليمها فى المدارس العسكرية الروسية.
لكن الثورة المضادة لم تيأس. وعادت التعديلات الدستورية التى قادها المستشار طارق البشرى لكى تعطى قبلة الحياة لاتفاق قيادات الإخوان مع عمر سليمان من خلال تعديلات دستورية صيغت لكى يُعطى للإخوان المسلمين البرلمان وتُعطى الرئاسة للعسكر. فالتشدد فى معايير جنسية رئيس الجمهورية كان شيئا مثيرا للغرابة وللريبة. فلم تكتف التعديلات فقط بالنصوص الموجودة فى دستور 1971 والتى تشترط مصرية المرشح كما مصرية والديه، لكنها زادت على ذلك أيضا؛ ألا يكون قد حمل جنسية أجنبية، وكذلك الأمر بالنسبة لوالديه. هذا بالإضافة إلى عدم زواجه بأجنبية. كان ذلك هذا التطرف مثيرا للغرابة لأن اثنين من رؤساء نظام يوليو السابقين كانت أمهاتهم سودانية (نجيب والسادات)، كما أن اثنين منهم كانت زوجاتهما نصف انجليزية (جيهان السادات وسوزان مبارك). وكانت تلك التعديلات مثيرة للريبة لأن التيار الإسلامى المهيمن على لجنة تعديل الدستور ليس له أن يتشدد فى معايير الجنسية بمقتضى عقيدته نفسها. فهو لا يؤمن بفكرة نقاء الدم ولا بالوطنية المتطرفة. هل تذكرون مقولة «طظ فى مصر» التى رفعها المرشد السابق للإخوان والتى لم يكن يقصد بها الذم فى مصر بقدر ما كان يؤكد إيمانه بأن رابطة الدين تسبق رابطة الوطنية؟ لقد خالف الإسلاميون المهيمنون على لجنة تعديل الدستور أفكارهم لأن التسوية بين العسكر والإخوان كانت تقتضى حجز مقعد الرئاسة للعسكر. هكذا دافع البشرى عن التطرف فى معايير جنسية الرئيس بدعوى أن تلك المعايير مطبقة على ضباط الجيش، لذلك فمن باب أولى أن تطبق على رئيس الجمهورية. إنها عسكرة لمنصب رئيس الجمهورية فى الدستور وتهيئة لذهن الناس بأن معايير اختيار الضباط يجب أن تكون هى نفسها معايير اختيار رئيس الجمهورية.
لقد صيغت التعديلات الدستورية لكى تجهض فرص العديد من الشخصيات مثل أحمد زويل ومحمد البرادعى ومحمد غنيم وغيرهم فى الترشح للرئاسة. وقد أضرت بالبلاد ضررا جسيما. فالخاسر الأول هنا هو مصر. فهذا التطرف يرسل رسالة سلبية إلى ملايين المصريين فى الداخل والخارج من المتزوجين من أجانب أو من حملة جنسية أخرى. فهؤلاء الملايين هم رصيد استراتيجى لأى نهضة مصرية. فالكثير منهم له من العلم والخبرة والعلاقات والمال ما يمكن أن يضعه فى خدمه البلد. وهؤلاء الملايين قد شاركوا فى الثورة، إن لم يكن بالتظاهر وتنظيم الصفوف لدعم الثورة والاتصال بالأهل والأصدقاء لشد أزرهم، فقد ساهموا بالدعاء والتمنى. وفى كل الأحوال هذه المعايير المتشددة فى الجنسية لا تكشف إلا عن ذهنية مهزومة أمام العالم الخارجى ومذعورة منه. فالنظم السياسية فى البلاد الصناعية الكبرى تجدد دماءها بذوى الدم «المختلط» بالأجانب دون أن يتعرض أمنها القومى للخطر. فباراك أوباما أبوه كينى، وساركوزى والديه مجريان متجنسان بالجنسية الفرنسية. والمثير للضحك والبكاء معا أن التيار السلفى الذى أيد بشكل هستيرى التعديلات الدستورية قد اصطلى أخيرا بنار هذه التعديلات حين بات حازم أبوإسماعيل على مشارف الخروج من سباق الرئاسة بسبب احتمال حصول والدته على الجنسية الأمريكية!
●●●
إن عودة اللواء عمر سليمان إلى حلبة السباق الرئاسى هو بمثابة إعادة إحياء السيناريو الروسى.. زواج جديد للبيروقراطية العسكرية مع الرأسمالية ولكن هذه المرة بقيادة رجال عسكريين يمثلهم عمر سليمان أو من يشبهه. مشكلة تطبيق السيناريو الروسى فى مصر هو أن مصر قامت بها ثورة مازالت نارها مشتعلة تحت الرماد، بينما روسيا لم يسقط فيها النظام بثورة. وبالتالى فإن إسقاط عمر سليمان من جديد هو أمر ممكن على الرغم من أن بديله لن يكون مرضيا أبدا لطموحاتنا الثورية. التحدى الثانى للسيناريو الروسى هو ظهور قطاعات نشيطة من الطبقة الوسطى أصابتها حالة من التجذر الثورى وترفض هذا التحالف الحاكم. مشكلة هذه القطاعات أنها ليست قوية بما يكفى لتسلم الحكم على الرغم من أنها قوية بما يكفى لإحداث أزمات متلاحقة فى النظام السياسى وفى إفساد حفل زفاف البيروقراطية العسكرية بالرأسمالية الليبرالية أو الإسلامية. وهذا ما يدخل البلاد فى مرحلة ممتدة من عدم الاستقرار السياسى. لن يحلحل هذا الوضع إلا تحالف اجتماعى جديد بين شرائح من الطبقات الوسطى الثورية وشرائح واسعة من الطبقات العاملة والشعبية، تحالف على النمط البرازيلى الذى أتى بالرئيس لولا إلى الحكم. لكن هذا التحالف الجديد ينتظر شرطين.. اشتداد عود النقابات العمالية وتوافر صيغة سياسية مناسبة لتنظيم هذا التحالف الطبقى الجديد. إن غدا لناظره قريب.