من المشاهد التى صادفتها، ويصعب على نسيانها، ما رأيته أكثر من مرة لدى وصولى إلى مطار دبى أو مطار أبوظبى، حيث يتجمع عشرات العمال الفقراء، من الهند أو سيريلانكا أو بنجلاديش أو الفلبين، عند بوابات الخروج فى انتظار أقربائهم أو معارفهم لدى وصولهم، للانضمام إليهم للعمل، فى ظروف صعبة، فى هذه البلاد البعيدة عن وطنهم الأصلى، ولكنهم مع ذلك يعتبرون أنفسهم سعداء الحظ إذ أتيحت لهم هذه الفرصة لتوفير ما يمكن إرساله إلى أسرهم فى بلادهم الأصلية لتمكينهم من الحصول على الضروريات. وها قد سمعنا فى الأيام الأخيرة عما يلقاه آلاف العاملين الوافدين من الهند، إلى دولة قطر، لبناء المنشآت اللازمة لدورة كأس العالم القادمة، إذ ترددت أخبار عن عدد كبير من الوفيات من هؤلاء العمال، بسبب الظروف السيئة التى يعملون فيها: ساعات عمل طويلة فى درجة حرارة مرتفعة. ويزيد من وقع هذه الأنباء قسوة المفارقة المذهلة بين معاناة هؤلاء العمال وبين الهدف الذى يبنون هذه المنشآت من أجله، وهو هدف ترفيهى بحت، وكمالى للغاية.
خطر لى حينئذ أن هؤلاء الذين أراهم أمامى عند باب الخروج، فى حالة من البؤس الواضح، هم الذين سماهم ماركس وانجلز «البروليتاريا»: رجال ونساء لا يملكون إلا قوة عملهم، التى يضطرون لبيعها للغير فى سبيل الحصول على أجر يسدون به حاجاتهم الضرورية وحاجات أولادهم. ولكنى رأيت بعد ذلك (وكنت رأيت أيضا قبل ذلك) صورا لا يرتسم على وجوه أصحابها نفس البؤس الذى يرتسم على وجوه هؤلاء العمال، ولكن ينطبق عليهم نفس التعريف للبروليتاريا: أى أنهم أيضا رجال ونساء يبيعون قوة عملهم للغير فى مقابل أجر (أو راتب) لأنهم ليست لديهم وسيلة أخرى لكسب الرزق. إنهم تجاوزوا بكثير ما يعتبر من ضروريات الحياة: يرتدون، هم وعائلاتهم، ملابس نظيفة وأنيقة ومريحة، ويأكلون أطيب المأكولات، وقد يذهبون إلى مقار أعمالهم فى سيارات مملوكة لهم. ولكنهم «بروليتاريا» رغم ذلك، ويلقون من المعانة فى عملهم ما لا يختلف إلا فى الشكل عن معاناة غيرهم من البروليتاريا المشتغلين بأعمال بدوية. هل أصبحنا جميعا «بروليتاريا»؟
ما أكثر ما أصادف اليوم الحالة الآتية:
رجل فى نحو الأربعين من عمره، يحمل شهادة جامعية، ويجيد الكلام بلغة أجنبية، ويعمل موظفا فى شركة أجنبية، ويذهب إليها كل يوم بسيارته الخاصة، ولكنه يقضى ساعة أو ساعتين كل يوم فى الذهاب، ومثل ذلك فى العودة، وقد تطول المدة عن ذلك فى ظروف المرور المألوفة لدينا. زوجته تحمل مؤهلا مثل مؤهله، وتعمل فى شركة أجنبية أيضا فى الغالب. قد يوصلها زوجها إلى عملها فى طريقه إلى عمله، ولكنها قد تستخدم سيارة أخرى خاصة. الاثنان يتركان طفلا صغيرا فى البيت مع خادمة فلبينية (وأحيانا حبشية ولكنها نادرا ما تكون مصرية لأسباب لا داعى للخوض فيها، فليس هذا موضوعنا الآن). الأسرة الصغيرة تعيش فى شقة مفروشة جيدا، بها جهاز التليفزيون بالطبع، وثلاجة مملوءة دائما بالطعام الجيد، وما أكثر لعب الأطفال المنتشرة على الأرض، ولكن الشقة بعيدة جدا عن كل شىء، ليس فقط عن مكان العمل بل وأيضا عن أهل الزوج والزوجة، ولا داعى الآن للتفكير فى مدرسة الطفل فى المستقبل، ولا فيما إذا كانت الظروف تسمح بإنجاب طفل آخر. الحياة «مترفة»، من وجهة نظر معينة، ولكن التكاليف عالية جدا، مما استلزم هذا النوع الجديد من «العبودية». «عبودية»؟، نعم، إذا كنت مضطرا لقبول القيام بعمل لا تحبه لأن حجم رغباتك أكبر بكثير من قدرتك على تحقيقها دون قبول القيام بهذا العمل. ولكن أليس هذا هو بالضبط حال «البروليتاريا» عند ظهور الماركسية؟ هل يهم كثيرا، ما دام الأمر كذلك، ما إذا كان ما ترغب فيه هو شراء الطعام الضرورى لأولادك، أو دفع تكاليف الدروس الخصوصية لهم أيضا أو دفع قيمة اشتراكهم فى نادٍ رياضى، أو دفع قيمة التأمين على السيارة، أو التأمين الصحى...الخ. إذا كان «الضغط النفسى» واحدا أو متقاربا فى الحالين؟
•••
إنى واثق من أن هذه الصورة الحديثة من صور «القهر»، لم تكن تخطر ببال الاشتراكيين الأوائل، فى إنجلترا وفرنسا، فى أوائل القرن التاسع عشر، ولا ببال ماركس الألمانى، فى منتصف ذلك القرن، ولا حتى ببال لينين الروسى، فى أوائل القرن العشرين، أى منذ ما يقرب من مائة عام. لقد حدثت أشياء كثيرة فى المائة عام الماضية، لم يكن من بينها للأسف وضع حد للظلم الاجتماعى، أو للقهر، كما كان يأمل هؤلاء المصلحون القدامى، ولكن تغيرت فقط صورته. إذ ربما يكون ثمة شىء فى الطبيعة الإنسانية تضطرنا إلى أن يقهر بعضنا بعضا. إن وجود نوع من «القهر»، فى الخضوع لإغراء السلع الترفيهية، حتى تحول فى نظرنا الكماليات إلى ضروريات لا يمكن الاستغناء عنها، قد أدركه بعض المفكرين منذ أقدم العصور، ولكن اتخاذ هذا الإغراء صورة قهر من جانب طبقة أو شريحة اجتماعية، لطبقة أو شريحة أخرى، أى تحوله إلى صورة من صور «الظلم الاجتماعى»، ظاهرة حديثة نسبيا، لا يكاد يزيد عمرها على خمسين عاما، هى تقريبا عمر اصطلاح «المجتمع الاستهلاكى»، إذ إن أحد المعانى المقصودة بـ«المجتمع الاستهلاكى» هو هذا المعنى بالضبط. بل لقد كانت الثورة التى قامت فى فرنسا فى 1968، وعرفت بثورة الطلاب، ثم انتشرت إلى سائر دول العالم الغربى، فى بعض جوانبها، ثورة ضد هذا النوع من القهر. وكان من بين الكتب التى ألهمت هذه الثورة كتاب هربرت ماركيوز (Herbert Marcuse): «الإنسان ذو البعد الواحد»، كما اشتد ساعد ناقدى المجتمع الاستهلاكى فى السنوات القليلة التالية لظهور كتاب ماركيوز. ولكن اللافت للنظر، والمدهش أيضا، كيف انحسر هذا الاتجاه بسرعة. فما ان انتهى عقد السبعينيات حتى عاد الأفراد المتمردون، والذين حاولوا اتخاذ مسار مختلف، إلى السير مع بقية القطيع، وانتظمنا جميعا، فى نفس المسار الذى خطه لنا المجتمع التكنولوجى الحديث، ولا يستفيد منه إلا حفنة صغيرة من الناس. من المدهش حقا كيف نجحت هذه الحفنة الصغيرة، بهذه السهولة، فى استئصال هذا الشك من أذهاننا، وإعادتنا إلى فهم «الظلم الاجتماعى» بالمعنى القديم الذى كان سائدا منذ قرنين من الزمان، أى أن نفهم «الظلم الاجتماعى» بمعنى استئثار حفنة صغيرة بالجزء الأكبر من الثروة والدخل ــ بينما تحصل الغالبية على جزء صغير منها، ولا نرى الصورة الحديثة للظلم أو القهر، وهى أن نقع فريسة للنهم الاستهلاكى. عندما تم هذا الانتصار، واستئصل هذا الشك من أذهاننا، أصبحنا جميعا نستحق وصف «البروليتاريا».