المصادفة وحدها تأخذنا أحيانا إلى بقاع ليست على صفحات خرائطنا المتعددة والمختلفة أو المتشابكة، ولا حتى فى صناديق أحلامنا بكثرة أوراقها التى تحمل كل واحدة منها مكانا أو زمانا أو ربما شخصا أو حتى مسرحية أو حفلة موسيقية؛ نضعها ضمن قائمة ما نسعى له أثناء حياة العمل أو بعد أن نقفل فصل العمل ونلتحق بفصيل المتقاعدين.
• • •
كانت هى نفس تلك المصادفة التى دفعت بها للسفر سريعا إلى تلك المدينة بذاك البلد الأوروبى العريق المشهور بالصرامة والالتزام فى العمل والاجتهاد فى البناء بعد دمار الحرب الثانية وحكم ذاك الرجل ذى الملامح القاسية والشخصية الصارمة، وربما المريضة بعض الشيء، كما وصفوه فى كتبهم وتحليلاتهم المستمرة حتى هذه اللحظة بعد مرور سنين طويلة من انتشار فكره الهدام.
• • •
ما هى إلا بضعة أيام من التنقل بين المستشفى، حيث لا زالت تلك الصديقة تعانى من آثار إصاباتها نتيجة انفجار مرفأ بيروت قبل ما يقرب من العامين، وبدأت كثير من الصور تتغير إن لم يكن تسقط وبشكل تدريجى. ألا يقول مثلنا الشعبى ما معناه أن ترى خيرا من أن تسمع؟! الرؤية تعنى الملامسة الحياتية وعن مسافة قريبة حيث لا رتوش ولا تعديلات ولا «فوتوشوب»!! هو الواقع برسم سواقى التكسيات الكثر وهم فى معظمهم من بلداننا الممتدة من المحيط إلى الخليج، وعلى الأخص أولئك الأخوة الهاربين من القذيفة والرصاصة والصاروخ إلى جحيم البحر ومنه إلى واقع آخر ما عليهم سوى التأقلم معه بشكل سريع حتى يستطيعوا أن يعيشوا ويتعايشوا.. وكالنهار الذى يمحى حديث الليل المنمق والجميل، يبدو حديثهم عن حالهم وحال البلد الذى حملوا فيه صفة «لاجئ».
• • •
تأتى الرسالة من قبل التطبيق حاملة اسم السائق وهو فى معظمه أسامة، ويسام، عبدالرحمن أو أنس.. وما إن ترى الاسم حتى يخف حمل الرحلة القادمة نتيجة صعوبة اللغة ورفض المواطنين فى هذا البلد الحديث بأى لغة أخرى حتى لو كانوا على علم ببعض مفرداتها، ربما لاعتزازهم بلغتهم وربما لأسباب أخرى مرتبطة باعتزازهم بهويتهم. لاجئو العرب العاملون ضمن شركات النقل المختلفة، لا يوفرون الفرصة لوصف حالهم وحال البلد التى هربوا من جحيم بلدانهم لها، فوجدوا أن للجحيم وجوها متعددة ولكنه البحث عن فرصة للحياة بين الموت المتنقل. اتفقوا جميعا رغم اختلافهم على إحساسهم العميق بالغربة والتطلع إلى اللحظة التى يستطيعون فيها العودة إلى أوطانهم.. أحدهم قال بفخر: أنا من ريف دمشق وعند سؤاله أين بالتحديد استغرب بعض الشيء أن هناك من قد يعرف تفاصيل أرض بلاد الشام.. قال من تلك البلدة التى تنتج «أطيب تفاح فيكى يا بلد».. سكت وكأنه يسترجع طعم قضمة التفاحة الصغيرة فى فمه وهو هنا على بعد آلاف الكيلومترات من أرضه.
• • •
آخر يحدثك عن بيتهم الواسع وعن أمه وأبيه اللذين رفضا الهجرة وأصرا على البقاء فى بيتهم أو ما تبقى ولكنهم طلبوا منه أن يأخذ أخيه ذى العشر سنوات معه.. يطيل هو الحديث عن غرفته فى ذاك البيت بـ«البحرة» فى وسطه كما هى بيوت الشام القديمة.. عن أيام يتحلقون فيها حولها أى حول نافورة البيت مع أكواب الشاى والفستق الحلبى الجوز. يتنهد ويكرر «الحمد لله على كل شيء والأهم أننا لا نزال أحياء وأهلنا أيضا.. الحمد لله!!».
• • •
أما ذاك السائق الساخر فقد قدم وصلة من الشرح الموسع لما سماه وهمًا أو كذب التصور الخارجى عن ذاك البلد، أى البلد التى هاجر هو لقلة الفرص فى بلده. لا تصدقوا ما تسمعون وتقرأونه فى كتبهم فمن بنى هذا البلد هم المهاجرون الذين قدموا منذ سنين طويلة وقاموا بنهضة الصناعة وبناء الطرق والمواصلات.. وأضاف، معجزتهم هى المهاجرون الذين يعاملونهم أحيانا كمواطنين من الدرجة الثانية «لم أستطع أن أكون صداقة واحدة حقيقية على مدى أكثر من عشر سنوات». ولكنه أوضح إلا مع مهاجرين آخرين، وأبناؤنا يلعبون مع كثير من المهاجرين من أفريقيا وآسيا وخاصة الدول الأقرب لأوروبا، ويضحك وهو يقول «كم كلامى متناقض فأنا الآن أوروبى أما قبل ذلك فكنا جزءا من الاتحاد السوفيتى الذى عملوا جهدهم لتفتيته!». صور كثيرة تبدو أكثر قربا للنوارس المهاجرة التى تبعد ولكنها لا تعرف المكوث فى الأماكن البعيدة فيبقى الجميع فى انتظار عودتها كما أجاد أحدهم فى الربط بين هجرة النوارس والاغتراب القاسى.