الخط الفاصل بين الشمال المتقدم والجنوب المتأخر، فى وقتنا الحالى، ما كان لينشأ لولا أن سبقه فاصل آخر بين الجنوب المتقدم والشمال المتأخر. فى ضوء ذلك، نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب منيف رافع الزعبى، تناول فيه خطأ العثمانيين الاستراتيجى الذى مهد لأفول الحضارة فى نصف الكرة الجنوبى لصالح نصفها الشمالى. كما ذكر أن تحقيق السلام والتعاون بين الشمال والجنوب مرهون بالتخلى عن مبدأ المركز والهامش، والاشتراك فى وضع حلول مبتكرة لمعالجة القضايا المختلفة.. نعرض من المقال ما يلى:
عقود أربعة مضت منذ أن أُطلِق التقرير الشهير الموسوم بـ«الشمال والجنوب: برنامج مِن أجل البقاء»، على يد المُستشار الألمانى الأسبق «فيلى براندت» فى العام 1980. وفاصل شمال / جنوب الوارد فى التقرير، والذى يُسمَّى أيضا بِخط براندت، هو خط وهمى يفصل بين الدول المتقدّمة (دول الشمال) والدول الفقيرة، والتى هى فى طَور النمو (دول الجنوب). ويشبه هذا الفاصل الحدّ الجغرافى بين نصف الأرض الشمالى ونصفها الجنوبى، لكنّه يعكس أساسا اللامساواة واللاعدالة فى التنمية على مستوَى الكوكب فى الوقت الحاضر.
كانت تلك العقود الأربعة حافلة بأحداث جسام تمثلت بانتهاء الحرب العالمية الثالثة أو الحرب الباردة فى العام 1990، والحرب العالمية الرابعة فى عامى 2020 و2021، التى واجه العالم خلالها فيروس كورونا، وزلازل سياسيّة واقتصادية أثرت صعودا وهبوطا على اقتصادات دول عدة، بما فيها دول حوض البحر الأبيض المتوسط التى تعتبر نموذجا جليا للتباين الكبير بين دول الشمال ودول الجنوب، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وإلى درجة أقل.. ثقافيا. ومن تلك الأحداث الانهيار المالى فى العام 2008، وما سُمّى بـ«الربيع العربى» ابتداء من العام 2011، وارتفاع أسعار النفط عالميا، والصراع الروسى ــ الغربى المتمثل فى حرب أوكرانيا مؤخرا. كذلك شهدت هذه العقود بزوغ فجر عصر الإنترنت، وما فُجّر مِن براكين المعلومات التى انتشرت نصا وصوتا وصُورا. ونحن الآن بصَدد التعامل مع إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعى، وعلى عتبة الولوج فى الثورة الصناعيّة الرّابعة؛ هذا المصطلح الذى وُلِد فى الشمال، وبالتحديد داخل أروقة منتدى الاقتصاد العالمى.
ومِن باب التأصيل التاريخى لمفهوم الشمال والجنوب فى الإطار المتوسّطى، وبالعودة من الثورة الصناعية الرّابعة التى نشهد شراراتها الأولى اليوم، إلى الثورة الصناعيّة الأولى التى انطلقت فى أوروبا فى منتصف القرن الثامن عشر، نقول إنّ الفاصل بين الشمال والجنوب، كما تحدّث عنه «براندت»، ما كان ليَنشأ لولا أن سبقه فاصل آخر بين الجنوب المتقدم والشمال المتأخر حينها، فاصل امتد لقرون طويلة قبل الثورة الصناعية، حيث كانت الحضارة العربية الإسلامية تتألق شرق المتوسط وجنوبه، عِلما ومعرفة بين القرنَيْن الثامن الميلادى والسادس عشر الميلادى، وإن عانت عسكريا وسياسيا.
فخلال تلك الحقبة مِن عصر الحضارة العربية الإسلامية الذهبى، انسابت المعرفة المتراكمة فيها، سواء كانت موروثة عن حضارات سابقة أم مولّدة محليا، مِن الجنوب المتقدم إلى الشمال، أى إلى أوروبا القابعة شمال المتوسط، والتى كانت تعيش عصورا مظلمة، مقارنةً بالحضارة القائمة على شاطئ المتوسط الشرقى والجنوبى. وقد ظَهر هذا التدفّق مع حملات الفرنجة فى نهاية القرن الحادى عشر الميلادى وعودتها إلى ديارها، وتصاعَد إلى أن ظَهرت دروب نقل المعارف مِن الجنوب إلى الشمال فى طليطلة والأندلس بشكل عام، وصقلية، وغيرها الكثير، وأخيرا، وليس آخرا، من خلال ما انتقل إلى أوروبا مِن معارف، جرّاء لجوء مَن لجأ مِن سكان القسطنطينية إلى أوروبا بعد سقوطها على يد محمد الفاتح العثمانى.
• • •
بعد الإشارة إلى الحضارة العربية الإسلامية، لعله مِن المنطقى أن نؤرخ لبداية أفولها بما وصفه د. مصطفى محمد على فى مجلة جامعة دمشق فى العام 2011، حين أشار إلى الخطأ الاستراتيجى المتمثل بإغلاق العثمانيين للطرق الواصلة بين أوروبا وآسيا الشرقية، ومنها طريق الحرير العظيم، والذى نتج عنه نقل مَركز جاذبية العالم القديم من شرق المتوسط وجنوبه إلى شماله، وأدّى بالأوروبيين آنذاك إلى البحث عن طُرق بديلة عن البحر الأبيض المتوسط للوصول إلى آسيا. وتبع ذلك مرحلة الأفول الاستراتيجى لمنطقة البحر الأبيض المتوسط الذى فَقَد بريقه كبحيرة تعانِق ضفتاه قارتَى أفريقيا وآسيا مِن جهة، وأوروبا مِن جهة أخرى، وبخاصة بعد اكتشاف «كولومبوس» قارة أمريكا وثرواتها فى نهاية القرن الخامس عشر، واكتشاف «فاسكو دى غاما» الخط الملاحى حول رأس الرجاء الصالح فى أقصى جنوب القارة الأفريقية كبديل من خطوط التجارة والنقل عبر المتوسط ودول جنوبه وشرقه.
أما من باب الترسيم السياسى للمفهوم، فنستذكر ما خلص إليه «جان فيليب ثيرين»، أستاذ العلوم السياسيّة فى جامعة مونتريال، فى العام 1999، وعقب مُناقشته تقرير براندت، أن «تقرير براندت» نجح فى طرح أسئلة حيوية، ويُعَد وثيقة ذات نَهج إصلاحى، لا تزال تثرى النقاش المستمر بين أنصار «نظام بريتون وودز» و«نظام الأمم المتّحدة» ومؤيديه حتى يومنا هذا.. أى بين الرؤى الليبرالية للتنمية على مستوى عالمنا مِن جِهة، وتلك التى تتبنى الديمقراطية الاجتماعية لتحقيق التنمية أساسا لها. ولعل هذا التوجّه الأخير، هو ما أفضَى فى العام 2015 إلى اعتماد الدول الأعضاء فى الأمم المتحدة خطة التنمية المستدامة لعام 2030 بأهدافها الـ 17، وغاياتها الـ 169، والتى تهدف إلى رسْم السياسات العالمية والوطنية المعنية بالتنمية، وخلْق فرص جديدة لتجسير الفجوة بين حقوق الإنسان والتنمية. وأصبحت تشكل إطارا عامّا يُوجّه العمل الإنمائى العالمى والوطنى.
وقد سبق ذلك، فى بداية التسعينيات مِن القرن العشرين، ما شهدناه مع انطلاق عربة التعاوُن اليورومتوسطى بين الاتّحاد الأوروبى والبلدان المتوسّطيّة الجنوبيّة والشرقيّة، ثمّ صدور إعلان برشلونة فى العام 1995، والذى حدّد مجالات العمل المشترك بين الجانبين، والذى أُطلق عليه «الاتّحاد مِن أجل المتوسّط» (Union for the Mediterranean) منذ العام 2008. وهو منظّمة حكوميّة دوليّة تضمّ 42 بلدا من أوروبا وحوض البحر المتوسّط، هدفها الرئيس زيادة التكامل بين الشمال والجنوب فى منطقة البحر المتوسط، بغية الإسهام فى التنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة وضمان الاستقرار فى المنطقة.
• • •
أما تنمويا واقتصاديا، فتمتاز منطقة حوض المتوسط بخصوصيّة فى مجال الطاقة تحديدا، وذلك تماشيا مع الهدف 7 من خطة التنمية المستدامة لعام 2030، الذى يهدف إلى إتاحة مصادر طاقة حديثة ومُستدامة يُمكن الاعتماد عليها بتكلفةٍ مُناسبة؛ إذ يُعد تَوفّر الطاقة من أهم الأركان التى تعتمد عليها التنمية الاقتصاديّة. وقد حبا الله دول جنوب المتوسط وشرقه بجغرافيا ومناخ يؤهلانها لتوليد كميات من الطاقة المتجددة من أشعة الشمس تحتاجها أوروبا لصناعتها وسياحتها. وما تأسيس المركز الإقليمى للطاقة المتجدّدة وكفاءة الطاقة (RCREEE) فى القاهرة فى العام 2008، إلا مثال على رغبة دول الإقليم بتفعيل الاستفادة مِن ممارسات الطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة فى المنطقة العربية وزيادتها.
والتعاون فى مجال الطاقة الأحفورية حتمى أيضا، وخصوصا فى نطاق استخراج الغاز الطبيعى فى منطقة شرق المتوسط، الأمر الذى سيؤدى إما إلى تعاون بَيْنى وإقليمى لتحقيق وضع اقتصادى أفضل للدول وسكانها فى المستقبل، أو إلى عواقب وخيمة يدركها من يدركها من صُناع القرار فى المنطقة، إذ يرَى د. وليد خدّورى أنّ اكتشاف مكامن بحريّة جديدة للغاز الطبيعى فى شرق المتوسط ربما يجر إلى نزاعات مسلحة بين دول المنطقة. ومع أن هذه الصناعة تعتبر فرصة نادرة لتمويل التنمية الاقتصادية والبشرية لسكان المنطقة، غير أنها قد تتسبّب بنشوب صراعات غير محسوبة النتائج، حسبما أوضح فى مقالة له فى مجلّة الدراسات الفلسطينيّة فى العام 2011.
فقد أسهم اكتشاف إسرائيل لحقل «تمار» قبالة مدينة حيفا فى العام 2009، ومِن ثَمَ اكتشاف مصر لحقل «ظهر» قبالة مدينة العريش فى العام ٢٠١٥، فى رفع مستوَى التنافس الإقليمى، وصولا إلى تشكيل منتدى غاز شرق المتوسط الذى تأسّس فى القاهرة فى العام 2019. كما أنّ احتماليّة الوصول إلى احتياطاتٍ أخرى، تدفع بالدول المطلَّة على شرق المتوسِّط وشركات التنقيب العالَميّة إلى توسيع نشاطاتها فى التنقيب فى المنطقة. وتأخذ هذه المساعى بُعدا سياسيّا فى ظلِ التحالُفات الإقليمية التى تغلب على المنطقة، فضلا عن وجود مسألتَين مُستعصيـتـَين على الحل تتمثلان فى القضية الفلسطينية، وقضية قبرص.
وبالتوازى مع انبعاث الاهتمام الأمريكى بالمنطقة مُجدّدا، وازدياد المحاولات الروسيّة لإثبات الحضور، تبدو مصر الطرفَ الأوفر حظّا فى تأديةِ دَورٍ اقتصادى فى الصراع على الغاز الطبيعى فى شرق المتوسِّط.
• • •
إعادة بناء جسور السلام والتعاون عبر البحر الأبيض المتوسط رهن بإيجاد حلول جذرية عادلة وشاملة ومستدامة للأزمات السياسية فى المنطقة، وفى مقدمتها الصراع العربى ــ الإسرائيلى، والمعالجة التشاركيّة للقضايا الاقتصادية، والتخلّى عن منطق المركز والهامش، بالإضافة إلى وضْعِ حلولٍ مبتكرة لمُعالجة القضايا المتوسطية من منظور تشارُكى يستلهم الماضى البعيد وعِبره، والقريب وتداعياته، وخصوصية المكان والزمان، ويتطلع إلى مستقبل واعد زاهر للمتوسّطيّين.
النص الأصلى:
http://bitly.ws/HdxK