بين الدولة الرخوة.. والدولة القوية - جلال أمين - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 9:47 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بين الدولة الرخوة.. والدولة القوية

نشر فى : الجمعة 8 يوليه 2011 - 8:32 ص | آخر تحديث : الجمعة 8 يوليه 2011 - 8:32 ص
إنى أعلق أهمية قصوى على ما حدث فى مصر من تحول (فى أعقاب هزيمة 1967)، من عهد الدولة القوية إلى عهد الدولة الرخوة. وقد طرحت فى الأسبوع الماضى الفكرة الآتية: إن السبب الأساسى فيما طرأ على الاقتصاد المصرى من تدهور، خلال العقود الأربعة الماضية، هو هذا التحول بالضبط، من دولة قوية إلى دولة رخوة. وذهبت إلى أن كثيرا جدا مما نشكو منه فى حياتنا الاقتصادية يمكن رده إلى هذا التغير.

وإذا كان الأمر كذلك، فالخروج من محنتنا الاقتصادية الحالية يشترط قبل كل شىء العودة إلى الدولة القوية، وإن كنت قد أسرعت بالتأكيد على أن المقصود ليس العودة إلى صورة طبق الأصل من دولة الستينيات فى مصر، فالعالم قد تغير خلال الأربعين عاما الماضية مما يجعل هذه العودة أمرا لا هو ممكن ولا هو مطلوب.

لماذا أعتبر ظهور الدولة الرخوة فى مصر مسئولا عما نحن فيه من مشكلات اقتصادية؟ انظر إلى ما فعلته الدولة القوية فى مصر فى السنوات العشر السابقة على الهزيمة العسكرية (57 ــ 1967).

عرفت مصر فى هذه السنوات العشر نظام التخطيط الاقتصادى لأول مرة، ووضعت أول خطة خمسية للتنمية (60 ــ 1965)، التى يمكن اعتبارها فى الحقيقة الخطة الجادة الوحيدة فى تاريخ مصر الاقتصادى، وكانت نتيجتها الارتفاع بمعدل الاستثمار ومعدل التصنيع ومعدل نمو الناتج القومى. لم يكن من الممكن أن يتم ذلك فى ظل دولة رخوة، ولا كان من الممكن إلا فى ظل دولة قوية اتخاذ إجراءات عميقة الأثر لإعادة توزيع الدخل، وتعميم الخدمات المجانية فى التعليم والصحة، أو المدعومة بقوة من الدولة، كالإسكان الشعبى، وتعديل قانون الإصلاح الزراعى مرتين لصالح صغار المزارعين، وإشراك عمال الصناعة فى الأرباح والإدارة. كان اتخاذ قرار بناء السد العالى يتطلب أيضا وجود دولة قوية، وقد أدى بناء السد العالى، مع ارتفاع معدل التصنيع وضمان الدولة لتعيين الخريجين، إلى تخفيض معدل البطالة الموسمية والمقنعة والمكشوفة، كما أدى تدخل الدولة الصارم بتقييد الواردات لصالح التصنيع، والتقييد الصارم لحركة رؤوس الأموال إلى تخفيض العجز فى الميزان التجارى وميزان المدفوعات، والمحافظة على ثبات سعر الصرف، كما أدت المراقبة الصارمة للإنفاق الحكومى إلى تخفيض عجز الموازنة العامة، والمحافظة على درجة عالية من ثبات الأسعار.

تطلبت هذه الإنجازات الرائعة ليس فقط دولة قوية إزاء الإقطاعيين والرأسماليين الوطنيين وغير الوطنيين، وإزاء المفسدين من جميع الطبقات فى داخل مصر، بل كانت تتطلب أيضا دولة قوية إزاء الضغوط الآتية من الخارج. وكان من حسن حظ مصر فى تلك الفترة (عصر الحرب الباردة والحياد الإيجابى) إن المناخ العالمى سمح لها بممارسة درجة عالية من حرية الإدارة إزاء المؤسسات المالية الدولية وإزاء الدول الكبرى. لقد اتخذت مصر قرار بناء السد العالى تحديا لموقف البنك الدولى برفض تمويله، وأممت قناة السويس تحديا لبريطانيا وفرنسا، وفرضت درجة عالية من الحماية للصناعة الوطنية تحديا لتوجيهات صندوق النقد الدولى. وعلى الرغم من بداية الاعتماد على القمح الأمريكى فى تلك الفترة، ظلت نسبة الاكتفاء الذاتى فى القمح وغيره من المواد الغذائية فى حدود معقولة، فى ظل معدل مرضٍ لنمو القطاع الزراعى.

لم يكن المناخ الدولى فى تلك الفترة معاديا لوجود الدولة القوية فى دول كثيرة من دول العالم الثالث، فاستطاعت مصر (كما استطاعت دول أخرى فى آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية) تأميم جزء كبير من مشروعات القطاع الخاص، وبناء قطاع عام قوى، وتطبيق نظام فعال فى دعم السلع والخدمات الضرورية، وإخضاع الاستثمار الأجنبى لقيود تمليها المصلحة الوطنية. وقد سمح كل هذا بأن تظل المديونية الخارجية فى حدود معقولة، لا تشكل خدمتها عبئا كبيرا على ميزان المدفوعات.

بدأ هذا البنيان العظيم فى الانهيار بمجرد أن تراخت قبضة الدولة على الاقتصاد بحدوث هزيمة 1967. أصبحت الدولة أضعف من أن تطالب الناس بضغط الاستهلاك للمحافظة على معدل عام للاستثمار، إذ أصبح تدليل الطبقة الوسطى مطلبا سياسيا مهما بعد الهزيمة. ولعجز الدولة عن تعبئة المدخرات، مع انخفاض شديد فى حجم المعونات الخارجية كجزء من العدوان على مصر، عجزت مصر عن تحقيق الاستثمارات اللازمة، فأصبحت خطة السنوات الخمس التالية (65 ــ 1970) حبرا على ورق.

احتلت اعتبارات الأمن وتهدئة الناس الأهمية التى كان يحتلها الاقتصاد قبل الهزيمة، وكان المقصود من شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، منع أى صوت أو عمل يهدد أمن النظام. تهاون النظام «لنفس السبب» فى حماية الصناعة المحلية، فغض النظر عن عمليات تهريب السلع الاستهلاكية التى كان ممنوعا استيرادها، كما تهاون فى السير فى طريق إصلاح التعليم، فسمح للجامعات باستقبال الأعداد الكبيرة من الطلاب كوسيلة أخرى لمنع تذمر الطبقة الوسطى. كما لم يعد الوقت مناسبا لاتخاذ قرارات جديدة لتضييق الفجوة بين الطبقات، إذ لم يعد النظام بعد الهزيمة فى حالة تسمح له بخلق أعداء جدد.

ومع كل ذلك «بل بسبب كل ذلك» اشتد ساعد الدولة البوليسية. إذ تحولت الدولة القوية بعد 1967 إلى دولة خائفة، تحمى نفسها لا بتعاطف الناس معها، بل بمراقبتهم ليلا ونهارا، والتنبه لكل همسة أو حركة طفيفة قد تخفى وراءها عملا ضد النظام.

مع مرور الوقت على الهزيمة تبين لنا بالتدريج أن أحد الأهداف الأساسية للاعتداء العسكرى الإسرائيلى على مصر فى 1967، هو هذا بالضبط: التخلص من الدولة القوية، إذ كانت للدولة المصرية القوية أبعاد كثيرة فى السياسة ضد إسرائيل، وفى السياسة العربية والخارجية.

وقد ثبت أن شخصية أنور السادات تلائم تماما هذا التحول من الدولة القوية إلى الدولة الرخوة، وسرعان ما ظهر هذا فى الاقتصاد كما ظهر فى غيره.

لم تكن سياسة الانفتاح التى دشنها السادات فى 1974 سياسة خاطئة تماما، فلم تكن هناك ضرورة فى السماح للمصريين بالخروج للعمل فى دول البترول، ولا فى فتح الباب لتسهيل استيراد السلع الوسيطة، ولا فى إصدار قانون جديد لتشجيع الاستثمار الأجنبى الخاص بعد الانخفاض الشديد فى المعونات الخارجية، بل ولا حتى فى التنازل عن الملكية العامة فى بعض المشروعات التى كان تأميمها لأسباب سياسية أكثر منه لدواع اقتصادية.

لكن كل هذا كان يتطلب لنجاحه إجراءات أخرى لم تتخذها دولة السادات. فأصبحت دولته، ليست مجرد دولة أكثر انفتاحا على العالم، بل دولة رخوة بكل معنى الكلمة. كان الانفتاح استهلاكيا وليس انفتاحا إنتاجيا. الهدف منه تشجيع الاستهلاك لا تشجيع الإنتاج. كان الانفتاح الرشيد يتطلب مثلا اتخاذ الإجراءات اللازمة لتوجيه تحويلات المصريين العاملين فى الخارج، فى اتجاهات منتجة وليس فى مجرد إرضاء النهم الاستهلاكى. كان من الواجب التمييز بين السماح بمزيد من الاستيراد الذى يخدم العملية الإنتاجية وبين إغراق السوق بالسلع الاستهلاكية والاستفزازية. كان من الممكن تشجيع الاستثمارات الأجنبية الخاصة دون إطلاق حريتها الكاملة فى تحديد محاولات الاستثمارات، وسياسة العمالة، وفى إنشاء بنوك أو فروع لبنوك عالمية لا هم لها إلا تعبئة مدخرات المصريين (خاصة تحويلات العاملين بالخارج) وتوجيهها إما للخارج، أو لاستثمارات فى داخل مصر ولكنها ضعيفة الأثر فى دفع عجلة التنمية.

بل كان من الممكن فى ظل سياسة الانفتاح تخفيض عبء الدعم الذى كانت تتحمله الحكومة، شيئا فشيئا، حتى تعود الأسعار تدريجيا للتعبير عن التكلفة الحقيقية للسلع، ولكن بشرط اتخاذ إجراءات كافية لتحقيق مزيد من العدالة فى توزيع الدخل. أما أن تسحب الحكومة يدها من تقديم الدعم ومن توفير الوظائف للخريجين، دون أن تضمن تحقيق الاستثمارات الكافية لتوظيف المتبطلين ورفع مستوى الدخل، وتتهاون فى الوقت نفسه فى تحصيل الضرائب، فهذا ليس مجرد سمة من سمات دولة تؤمن بتطبيق مبدأ حرية السوق، بل هو من سمات دولة ضعيفة تنفذ كل ما يأتيها من الخارج من توجيهات، وتخضع لرغبات طبقة جديدة فى الداخل، لا حد لطموحاتها المادية، وكأنها تريد الانتقام من نظام الستينيات الذى ضيق عليها فرض الكسب والتربح وتكوين الثروات، ولو أدى هذا الانتقام وهذه الطموحات إلى التضحية بسلالة الاقتصاد المصرى.

●●●

زادت رخاوة الدولة شيئا فشيئا مع مرور السنوات فى عهد السادات، واستمرت رخاوتها فى الزيادة فى عهد حسنى مبارك، سواء إزاء القوى الخارجية ذات المصلحة أو إزاء الطبقة الجديدة فى مصر، حتى وصل الاقتصاد المصرى إلى ما هو عليه الآن: معدل نمو منخفض فى الناتج القومى، معدل بطالة مرتفع، جهاز إنتاجى مختل لصالح الخدمات، وعلى حساب الصناعة والزراعة، ونسبة عالية من الاعتماد على الخارج فى توفير بعض السلع الأساسية، أهمها القمح، ومستوى عال من الديون الداخلية، ونمط بالغ السوء لتوزيع الدخل، ونظام للتعليم متهالك.. إلخ، بينما يمرح التليفزيون ليلا ونهارا فى تسلية المصريين وإثارة المزيد من التطلعات الاستهلاكية، أملا فى صرفهم عن التفكير فى مشكلاتهم الحقيقية.

●●●

إذا كان هذا التشخيص صحيحا، أو حتى قريبا من الصحة فلا مفر، من أجل تصحيح حالة الاقتصاد المصرى، من العودة إلى الدولة القوية. وقد ثارت الآمال بشدة بقيام ثورة 25 يناير، وتنحية نظام حسنى مبارك، فى أن يعود عهد الدولة القوية إلى مصر. ولكننى أعود فأكرر أن عالم اليوم لم يعد كما كان فى 1956 أو 1961. لقد مر على قيام الدولة المصرية بتأميم قناة السويس أكثر من نصف قرن، وبعد أيام قليلة يكتمل نصف قرن بالضبط على قيام جمال عبدالناصر بإعلان تأميمات شاملة للمشروعات الصناعية والتجارية، وإعلان إجراءات لإعادة توزيع الدخل التى قطعت شوطا بعيدا فى تحقيق العدالة الاجتماعية. فما هى التغيرات التى حدثت فى مصر وفى العالم، خلال نصف القرن الماضى، التى تجعل تكرار هذه التجربة مستحيلا اليوم، بل ومن غير المرغوب فيه.

وما هو الممكن عمله الآن للنهوض بالاقتصاد المصرى، وتحقيق المزيد من عدالة التوزيع، مما تسمح به ظروف مصر والعالم اليوم؟ هذا هو ما سأحاول مناقشته فى المقال التالى.
جلال أمين كاتب ومفكر مصري كبير ، وأستاذ مادة الاقتصاد في الجامعة الأمريكية ، من أشهر مؤلفاته : شخصيات لها تاريخ - ماذا حدث للمصريين؟ - عصر التشهير بالعرب والمسلمين - عولمة القهر : الولايات المتحدة والعرب والمسلمون قبل وبعد أحداث سبتمبر.
التعليقات