من أجمل الروايات التى قرأتها رواية قصيرة كتبها بالإنجليزية أديب نيجيرى فى خمسينيات القرن الماضى (شينوا آشيبى C. Achebe)، واعتبرت منذ ذلك الوقت من كلاسيكيات الأدب العالمى. الرواية يمكن ترجمة اسمها بـ(عندما تتداعى الأشياء Things Fall Apart) أو (عندما ينهار كل شىء)، وتحكى قصة قبيلة نيجيرية يرأسها بطل عظيم يكن له الجميع احتراما وتبجيلا شديدين لقوته وشجاعته وحزمه وإخلاصه فى الدفاع عن قبيلته. المشكلة أن ابنه لا يتمتع بهذه الصفات، والأدهى من ذلك أن هذا الابن الضعيف يخون قبيلته وأباه بأن ينضم إلى غزاة من الاستعماريين البيض، يريدون أن يضعوا أيديهم على موارد هذه القبيلة، ويأتون إليها حاملين السلاح ولكن يتقدمهم بعض المبشرين الذين يدعون أنهم جاءوا لنشر المسيحية ومبادئ المحبة والتسامح.
يعتنق الابن المسيحية ولا يكترث لغضب أبيه ونقمة عشيرته، ويكون هذا سببا فى انهزام القبيلة وانتصار المستعمرين، وقيام الأب بقتل نفسه حزنا وكمدا.
ما الذى يدفع شابا كهذا إلى أن يخون قبيلته وينضم إلى أعدائها إلا مرض فى نفسه، وحقد دفين فى صدره ضد عشيرته بل وضد أبيه نفسه وأسرته؟ فى الرواية ما يشير من طرف خفى إلى وجود أسباب كهذه قد تكون هى التى دفعته إلى الخيانة، ولكن المؤلف لا يستفيض فى شرح الأسباب، ويكتفى بوصف المأساة التى حولت بسببها قبيلة عظيمة معتزة بنفسها وراضية عن حياتها، إلى أشلاء قبيلة مهزومة، أى «تتداعى بسببها الأشياء» أو «ينهار كل شىء».
•••
لم يكن غريبا أن أتذكر هذه الرواية عندما قرأت منذ أيام قليلة، عن وفاة رجل مدهش هو فؤاد عجمى، أستاذ العلوم السياسية فى الولايات المتحدة، وهو عربى من أصل فارسى سافر إلى الولايات المتحدة فى سن الثامنة عشرة، ثم قرر أن يكرس كل مواهبه وقدراته لخدمة أعداء العرب. وقد فرح به هؤلاء الأعداء فرحا عظيما وقرّبوه وكرّموه، وعينوه فى مناصب رفيعة، وجعلوه نجما لامعا من نجوم الإعلام الأمريكى، فلا يحدث هجوم على بلد عربى إلا جاءوا به لتبريره، ولا يخطئ بعض العرب خطأ إلا استخدموه للتشهير بهم.
ما الذى يدفع لبنانيا شيعيا إلى اتخاذ هذا الموقف المدهش؟ يمكننا أن نخمّن بعض التخمينات من تتبعنا لظروف نشأته، ولكننا لن نعرف أبدا السبب الحقيقى معرفة يقينية. المهم أنه بعد أن قضى ثلاثين عاما من حياته فى توجيه الطعنات إلى أى شىء عربى، لم يسترح إلا بعد أن «تداعى كل شىء»، فمات وحالة العرب كما نرى، سواء نظرنا إلى العراق أو سوريا أو ليبيا، وبعد أن أصبحت «القومية العربية» مجرد ذكرى محزنة لحركة كانت واعدة بأفضل الأشياء، فأصبح الحديث عنها يعتبر ضربا من الجنون.
•••
لفت فؤاد عجمى أنظار العرب وأعدائهم على السواء فى أوائل الثمانينيات بكتاب عنوانه «محنة العرب» (The Arab Predicament)، وصف فيه ما آل إليه حال العرب بعد هزيمة 1967، بفصاحة وذكاء، ولكنه أيضا أشبع العرب سخرية، وأرجع ما أصابهم من كوارث إلى أخطاء ارتكبوها هم وأعفى كل طرف آخر من المسئولية. لم تكن هذه النغمة جديدة تماما علينا، فقد بدأها فى السبعينيات بعض الحكام العرب الذين كانوا يشعرون بتهديد حركة القومية العربية لعروشهم، كما اشترك فيها على استحياء الرئيس المصرى أنور السادات، الذى اعتبر من مهامه الرئيسة تصفية التركة الناصرية، ومن بينها حركة القومية العربية. رفع السادات شعارا غريبا هو «مصر أولا»، وكأن الدعوة إلى الوحدة العربية تعنى التضحية بالمصالح المصرية. وقد ساير السادات فى هذا الاتجاه، للأسف، عدد من الكتاب المصريين الذين كانوا يقللون من شأن انتماء مصر العربى، أو فاقدى الأمل فى أن تتخذ مصر أى طريق غير تبنى الحضارة الغربية برمتها، بخيرها وشرها، أو كانوا يسيرون وراء الحاكم أيا كان اتجاهه.
ولكن أيا كانت دوافع السادات أو هؤلاء الكتاب فى التنكر لفكرة القومية العربية فقد اتضح شيئا فشيئا، مما لا يدع مجالا للشك، فى أن هذا هو الاتجاه الذى كانت تقويه الولايات المتحدة وإسرائيل. كانت الحرب الباردة بين المعسكرين الغربى والشرقى قد انتهت بانتهاء الستينيات، ومن ثم لم يعد هناك مجال للصبر على سياسات الاستقلال الاقتصادى والثقافى التى تبناها عبدالناصر، وكان المطلوب تحويل الدفة برمتها فى اتجاه التبعية الكاملة للغرب.
رأى فؤاد عجمى ذلك فراهن على الحصان الرابح، واستمر يسير فيه بكل قوته طوال ثلاثين عاما. فقدم خدماته برضا تام، وكوفئ عليها بسخاء إذ كانت تحقق هدفين مهمين: اقناع الرأى العام داخل الولايات المتحدة وفى العالم بوجه عام بأن العرب يستحقون ما يكال لهم من ضربات، وزعزعة ثقة العرب بأنفسهم من أجل مزيد من إضعاف قدرتهم على المقاومة.
أصبح فؤاد عجمى إذن بين يوم وليلة المعلق الدائم والمفضل فى وسائل الإعلام الأمريكية على كل ضربة توجه إلى العرب، وعلى كل خطأ يرتكبونه، والتفسير دائما هو أن هذه الضربات مبررة، وأن هذه الأخطاء متوقعة وحتمية. لا عجب إذن أن عين مديرا لدراسات الشرق الأوسط فى جامعة جون هوبكنز بالعاصمة الأمريكية، ثم زميلا فى مؤسسة هوفر التابعة لجامعة ستانفورد بكاليفورنيا، وعضوا فى مجلس إدارة مجلس العلاقات الخارجية، وفى مجلس إدارة مجلة الشئون الخارجية. ثم اختير مستشارا لوزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، وأصبح صديقا مقربا من بول ولفووتيز، نائب وزير الدفاع الأمريكى فى بداية الغزو الأمريكى للعراق.
قبيل غزو أمريكا للعراق ألقى نائب الرئيس الأمريكى ديك تشينى خطابا حاول فيه أن يهدئ مخاوف البعض من الهجوم المرتقب على العراق فقال «ان الأستاذ فؤاد عجمى الخبير فى شئون الشرق الأوسط عبر عن ثقته بأنه بتحرير العراق من صدام حسين سوف تنتفض شوارع البصرة وبغداد من الفرحة مثلما قامت كابول بالترحيب بمجئ الأمريكيين». فلما تم الغزو الأمريكى صرح فؤاد عجمى بأن هذا الغزو «كان نتيجة لشعور الولايات المتحدة بالضيق الشديد إزاء ثقافة الإرهاب التى ترسخت فى البلاد العربية». ثم عاد فى سنة 2006، أى بعد الغزو بثلاث سنوات، فوصفه بأنه «عمل لا يمكن الشك فى نبل دوافعه». أما فى فبراير 2011، بعد بداية الثورات العربية، فقد قال فؤاد عجمى فى حديث تليفزيونى بأن «الفضل فى قيام ثورة فى مصر وتونس يعود إلى الرئيس جورج بوش، إذ إن قيام بوش بإسقاط حاكم مستبد فى العراق (صدام حسين) فى سنة 2003، شجع على إسقاط حاكمين مستبدين آخرين فى تونس ومصر».
•••
فى الوقت الذى يأتينا فيه نبأ وفاة فؤاد عجمى فى 22 يونيو، نتلقى أيضا أنباء عن هجوم القوات التى تعرف باسم (داعش)، أى الدولة الإسلامية فى العراق والشام، على مدينة بعد أخرى من المدن العراقية، وتحويلها إلى ميادين للقتل والتدمير، بدعوى الخلاف بين السنة والشيعة، وهو خلاف لم يمنع العراق من العيش فى سلام لمئات من السنين. وأنا لا أجد صعوبة فى الربط بين النبأين. إذ لا شك فى أن ما كتبه وقاله فؤاد عجمى، خلال الثلاثين عاما الماضية، قد ساهم بقدر صغير أو كبير، فى الوصول بالعرب والمسلمين إلى هذه النتيجة المرعبة.