أعتقد أنه من يتابع كاتب هذه السطور يعلم أن تخصصه هو مجال تصميم الحاسبات بكل أشكالها من أول إنترنت الأشياء وحتى الحاسبات فائقة السرعة، لكن عندما أدعى لإلقاء محاضرة فى مكان ما خارج الإطار الأكاديمى أو فى ندوة فإنه دائما ما يُطلب منى الكلام عن الذكاء الاصطناعى، هنا يمكنك أن تتساءل: ما علاقة الذكاء الاصطناعى بتصميم الحاسبات؟ أم أنك تذهب لتلك الندوات معتمدا على أن الحضور لا يفهم دقائق تلك المسائل ومعتمدا على هالة أستاذ الجامعة فى أمريكا؟ الإجابة على السؤال الثانى هى بالطبع لا وإلا كان نوعا من التدليس على الناس، وهذا يقودنا إلى السؤال الأول.
الذكاء الاصطناعى هو فرع من علوم الحاسبات وقد ظهر هذا الفرع وحصل على اسمه فى ورشة عمل استغرقت عدة أسابيع فى صيف 1956 فى مدينة دارتموث بولاية ماساشوستس الأمريكية وقد حضره كبار العلماء فى تخصصات علوم وهندسة الحاسبات والاتصالات والرياضيات فى العالم آنذاك، وفى ورشة العمل هذه ظهر فرع الذكاء الاصطناعى وبدأت التكهنات من الصحافة عن متى سنحصل على كمبيوتر يمتلك ذكاءً يضارع ثم يتفوق على الذكاء البشرى. تاريخ الذكاء الاصطناعى عانى من خريف (حيث فقدت المؤسسات الحكومية والشركات اهتمامها به) وربيع (حيث كثر التمويل والاهتمام بالتخصص) عدة مرات فى العقود السبعة الماضية، لكننا لا نستطيع أن ننكر أن هذا التخصص أصبع يحتل عقول الناس وألسنتهم واهتمامهم منذ 2012 وحتى الآن، فماذا حدث؟
من ناحية الذكاء الاصطناعى لم يحدث شىء ذا بال سنة 2012 بالتحديد، ولكن ما حدث جاء من ناحية تصميم الحاسبات، فقد أصبحت الحاسبات من القوة بحيث أصبحت تستطيع تشغيل تلك البرمجيات بسرعة كافية لتصبح تلك البرمجيات مفيدة، والمقصود بكلمة «مفيدة» أنها تعطيك الإجابة بسرعة معقولة فمثلا إذا أخذ برنامج مثل ChatGPT نصف ساعة ليرد على كل سؤال تسأله فإنه لن يكون مفيدا لأحد. إذن بدون تصميم حاسبات سريعة لم نكن لنتحدث عن الذكاء الاصطناعى إلا فى الدوائر الأكاديمية الضيقة. قد يقول قائل لكن مصممى الحاسبات مهمتهم تصميم حاسبات سريعة بغض النظر عن وجود الذكاء الاصطناعى من عدمه، هذا ليس صحيحا تماما لأنه مع انتشار استخدام الذكاء الاصطناعى بدأ مصممو الحاسبات فى تصميم أجهزة خصيصا للذكاء الاصطناعى أى أنها تكون سريعة لهذه النوعية من التطبيقات لكنها ليست بنفس السرعة فى التطبيقات الأخرى.
مع وجود تلك الحاسبات أصبح بإمكان خبراء الذكاء الاصطناعى تصميم برمجيات أكثر تطورا وبدأنا نرى تطبيقات مثل ChatGPT ونرى اقتراب حلم السيارات ذاتية القيادة من التحقق على مستوى واسع وتطبيقات طبية وتعليمية متقدمة وما زلنا فى البداية. قدرات الحاسبات تتزايد بسرعة كبيرة، سنة 1997 احتاجت هزيمة بطل العالم فى الشطرنج من شركة أى بى إم تصميم جهاز كبير بملايين من الدولارات، الآن تليفونك المحمول وعليه برنامج شطرنج متقدم يمكنه هزيمة بطل العالم وهذا نتيجة تطور قدرات أجهزة الكمبيوتر. إذا فمهندسى الحاسبات يجب أن يكونوا على علم بتطبيقات الذكاء الاصطناعى وكيفية عملها حتى يتمكنوا من تصميم أجهزة تساعد هذه التطبيقات على العمل بسرعة. لكن ومع كل التقدم الذى نراه فى تصميم الحاسبات وتطبيقات الذكاء الاصطناعى هل نستطيع أن نثق تماما فى تلك البرمجيات؟
تلك البرمجيات تواجه ثلاث صعوبات: الأولى أنها تعطى نتائج عظيمة لكن الخبراء لا يعرفون بدقة لماذا، طريقة «جربتها واشتغلت» لا تجعلنا نطور تلك التكنولوجيا بكفاءة، الثانية أن تلك البرمجيات تعطيك النتيجة لكن لا تشرح لك كيف وصلت لتلك النتيجة، مثلا قد تعطيها نتائج التحاليل الطبية لشخص ما وتعطيك اسم المرض وطريقة العلاج لكن لن تشرح لك كيف وصلت لها، هل ستثق فى تلك النتيجة؟ انتاج برمجيات ذكاء اصطناعى تشرح كيف وصلت للنتيجة مازالت فى دائرة البحث العلمى، وثالثا هناك الكثير من التشريعات التى نحتاجها قبل ان نستخدم تلك البرمجيات على نطاق واسع، مثلا لو ركبت سيارة ذاتية القيادة وطلب منها توصيلك لمكان ما وأثناء الطريق صدمت السيارة شخصا، من سيتحمل المسئولية؟ من سيتحمل مسئولية علاج خاطئ تعطيه تلك البرمجيات؟ البرمجيات أكثر دقة من البشر لكن ليست دقيقة بنسبة 100%، إذا انتجت تلك البرمجيات رواية أو لوحة فنية فماذا عن الملكية الفكرية؟
إذا هناك مصاعب تقنية ومصاعب تشريعية ونحن مازلنا فى بداية الطريق وهناك الكثير من الأسئلة الصعبة.
والآن ما رأيك: هل ستثق فى برمجيات الذكاء الاصطناعى؟ هل تخاف من الذكاء الاصطناعى؟