ما إن أشار الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى ضرورة رفع أسعار الخبز المدعوم الذى يباع بـ«5 صاغ» لـ«توفير التمويل اللازم للوجبات المدرسية»، حتى انطلقت كتائب التأييد لتدعم وتبرر تلك «الخطوة الجريئة التى تأخرت نحو 33 عاما»، والتى لن تؤثر على ملايين الفقراء، الذين لا يجد عدد كبير منهم «العيش الحاف» لسد الرمق.
المنصات الإعلامية المختلفة عرضت اجتهادت وتخريجات لنواب وأعضاء غرف تجارية ونقابات ومشايخ وخبراء اقتصاد وتغذية فى محاولة لإقناع المواطن بالقرار المرتقب، كل حسب ثقافته وخلفيته المهنية والاجتماعية والاقتصادية، فما بين أن مصر البلد الوحيد فى العالم الذى يبيع «العيش» بهذا السعر، مرورا بأن ما سنوفره من دعم سيدخل فى ميزانية تحسين التعذية المدرسية، وصولا إلى أن الخبز البلدى المدعوم يدخل فى صناعة «البوظة» وهى مشروب مُسكر مُحرم، وعليه فيجب رفع سعر الخبز، حتى لا يستخدمه الفقراء فى صناعة «المنكرات»!!.
تنوعت المبررات إلا أن هناك تخريجة اتفق عليها الجميع، وهى أن الخبز المدعوم الذى يباع بـ«5 قروش» فى حين أن تكلفته «65 قرش» يتم استخدامه كعلف للماشية والطيور بعد تجفيفه، «أغلب فئات الشعب لا يتناولون الخبز المدعم، وجزء كبير منه يستخدم كعلف»، قالها أحد النواب مطالبا برفع سعر الرغيف، واتفق معه نقيب الفلاحين وممثل عن شعبة المخابز.
يتناسى هؤلاء أن مصر من الدول التى توقفت تقريبا عن دعم الفلاح منذ فترة ليست بقصيرة، بالرغم من أن أعتى الدول الرأسمالية لاتزال تدعم المزارعين لضمان أمنها الغذائى، يذهب هذا الدعم فى صورة مدفوعات من حكومات تلك الدول للبذور والأسمدة وصيانة الأراضى والأعلاف.
كان الفلاح المصرى فى الماضى يحصل ببطاقة الحيازة من الجمعيات الزراعية على السماد والعلف بأسعار زهيدة، الآن يعتمد فلاحو مصر على السوق الحرة لتوفير احتياجاتهم الزراعية.
بحسبة بسيطة ووفقا لأسعار بورصات الأعلاف يتراوح سعر العلف الذى يتم استخدامه فى تغذية المواشى والطيور وأسماك المزارع ما بين 5 آلاف جنيه لطن الذرة الصفراء إلى 9 آلاف جنيه لطن العلف المخلوط من ذرة صفراء وفول صويا وردة وكسبة، فى حين أن سعر طن الخبز المجفف الذى يتم جمعه من المخابز على هيئة «سحلة» أو من مخلفات المنازل لا يتعدى الـ 3 آلاف وخمسمائة جنيه.
وفقا لبيان اتحاد الغرف التجارية فإن نسبة الهدر فى الخبز المدعم تصل إلى 35%، يتم استغلال جزء كبير منها فى علف الطيور والمواشى، وتُقدر شعبة المخابز باتحاد الصناعات، فاتورة الإهدار فى منظومة الخبز المدعم بنحو 3 مليارات جنيه.
وبعيدا عن البيانات الرسمية، ووفقا لما يمكننا أن نرصده بأعيننا فإن أهلنا فى الريف ومعهم كبار المُربين يستخدمون الخبز المجفف كعلف رخيص جنبا إلى جنب مع الأعلاف المصنعة لتخفيض كلفة الإنتاج الحيوانى والسمكى والداجن.
لو ممدنا الخط على استقامته وذهبنا مع هؤلاء إلى أن رفع سعر الخبز المدعوم سيُنهى ظاهرة استخدامه فى علف المواشى والدواجن، فستظهر على السطح أزمة جديدة بعد أن ترتفع أسعار اللحوم والألبان والدواجن والأسماك بنسب تتراوح ما بين 10 و 30 فى المائة، نتيجة اعتماد المربين على العلف المصنع فقط والذى نستورد نحو 80% منه.
المعادلة السابقة تصل بنا إلى أن رفع الدعم عن الخبز بشكل جزئى أو كلى، سيؤدى إلى زيادة أسعار عدد كبير من السلع التى يعتمد عليها فقراء الريف والمدن فى الوقت الذى لم تشهد فيه الأجور مؤخرا أية زيادات، وهو ما سيضعنا أمام موجة تضخم كبيرة إذا لم يتم صرف النظر عن قرار رفع الدعم عن رغيف العيش.
قبل التفكير فى إعادة تسعير الخبز المدعم يجب إعادة النظر فى نتائج تلك الخطوة التى ستسحق فقراء مصر الذين إن وجدوا «العيش الحاف»، فلن يجدوا «الغموس» بدءا من الألبان والأجبان وصولا إلى الدواجن واللحوم التى سترتفع أسعارها كنتيجة مباشرة لشح الخبز المجفف الذى يستخدمه الفلاحون كعلف.
من الخطوات التى يجب دراستها أولا إعادة دعم الأعلاف ومستخدمات الزراعة، فمصر ليست الدولة الوحيدة التى تدعم فقرائها من الفلاحين، وتجارب الدعم المباشر وغير المباشر التى تتبعها أمريكا وأوروبا والصين وغيرها تثبت أن الدول بتنوع توجهاتها الاقتصادية لا تزال تعمل على ضمان الأمن الغذائى لمواطنيها.
30% من إجمالى عدد سكان مصر تحت خط الفقر ومثلهم يقف على حافة هذا الخط، وبالتالى علينا أن نفكر فى هؤلاء ومعيشتهم ومستقبلهم.