نعود إلى البدايات: إذا كان التنظيم الديمقراطى يضع شروطا واضحة لمشاركة الأفراد والكيانات الجماعية فى إدارة الشأن العام والسياسى أبرزها التزام السلمية وسيادة القانون والامتناع عن مناهضة قيم الحق والحرية والمساواة والمواطنة، فإن هدف التنظيم الديمقراطى هنا هو التأسيس لمجتمع السلم الأهلى والعيش المشترك المتجاوز لتمايزات المواطنات والمواطنين الدينية والمذهبية والعرقية والسياسية.
ويقابل الشروط المفروضة على الأفراد والكيانات الجماعية مجموعة من الشروط الموازية التى يتعين على الدولة ومؤسساتها وأجهزتها الالتزام بها وأبرزها كفالة حقوق وحريات المواطن بحيادية ودون تمييز والامتناع عن استخدام القوة الجبرية خارج اطار سيادة القانون أو التورط فى العنف الرسمى، وهدف التنظيم الديمقراطى هنا هو التأسيس لدولة العدل الضامنة للكرامة الإنسانية.
أما حين تغيب الديمقراطية أو تتعثر مسارات التحول نحوها، فإن الطرفين أى الأفراد والكيانات الجماعية من جهة والدولة ومؤسساتها وأجهزتها من جهة أخرى يتجاهلان الالتزام بشروط أدوارهم وأفعالهم ويزجان بالمجتمع إلى آتون مخاطر بالغة وتهديدات عميقة لسلمه الأهلى وعيشه المشترك وقد ينزلقان به إلى دوائر العنف والعنف المضاد. وإذا كانت تواريخ الكثير من المجتمعات البشرية تدلل على التداعيات الكارثية لغياب الديمقراطية على السلم الأهلى والعيش المشترك، فإن العقود الأربعة الماضية تشهد من لبنان ويوغسلافيا السابقة مرورا بالجزائر وليبريا وأفريقيا الوسطى إلى رواندا وبوروندى وسوريا على صعوبة خروج الدول والمجتمعات من دوائر العنف والعنف المضاد ما أن تسيطر على الواقع وتعزو المخيلة الجماعية للمواطنات وللمواطنين.
وحقيقة الأمر أن الأوضاع المصرية الراهنة تسجل تراجعا مأساويا لجهة التزام الأفراد والكيانات وكذلك الدولة ومؤسساتها وأجهزتها بضمانات السلم الأهلى والعيش المشترك والعدل الضامن للكرامة الانسانية والمانع للعنف.
يومياتنا باتت يوميات شيزوفرنيا جماعية، هنا احتفالات وهناك تظاهر وعنف وضحايا، هنا فاشية تبرر العنف الرسمى زيفا باسم الوطنية وهناك فاشية من نوع آخر تبرر رفع السلاح والتورط فى العنف ضد الدولة وفى العنف الأهلي، هنا سعادة وتصفيق جماهيرى حاد لعودة القبضة الأمنية وممارساتها الاستثنائية وهناك تركيب لتاريخ مظلومية جديد وثقافة استشهاد بائسة ولا عقلانية، هنا سلم أهلى وعيش مشترك ودولة عدل تمتهنها فاشية الوطنية الزائفة وهناك سلم أهلى وعيش مشترك يداس عليهما بتحريض يتناقض مع قيم الوطنية والمواطنة والإنسانية.
ولا سبيل لوقف التراجع المأساوى لضمانات السلم الأهلى والعيش المشترك ولدولة العدل ولا سبيل للتخلص من يوميات الشيزوفرنيا المجتمعية الراهنة إلا باستعادة مسار تحول ديمقراطى جاد يدمج ولا يقصى ويضمن ولا يهدد وبإعادة اكتشاف إنسانيتنا التى تلزم بالسلمية وتنبذ العنف، كل العنف.
غدا هامش جديد للديمقراطية فى مصر.