حينما اختار منظمو مهرجان الصعيد الثالث للمسرح الحر، والذى نظمته جمعية اصدقاء أحمد بهاء الدين الأسبوع الماضى فى مدينة أسيوط، شعارا له «ابداع يتحدى الواقع»، لم أتصور أن يكون شعارا واقعيا إلى هذا الحد.
على مدى ثلاثة أيام قامت ثمانى فرق مسرحية شبابية ــ من بين سبع وعشرين فرقة تقدمت للمشاركة ــ بتقديم عروضها التجريبية على مسرح قصر ثقافة أسيوط. وبجانب العروض المسرحية، تضمن المهرجان فقرات موسيقية، وندوات للنقاد والكتاب المسرحيين، وتكريما لاسم الكاتب المسرحى الراحل نعمان عاشور وكذلك الكاتب والشاعر درويش الأسيوطى، ولقاءات مع الحاضرين فى استوديو المهرجان الذى تطوعت بإدارته مجموعة من شباب المصورين، وحفل ختامى استمتع فيه الحاضرون بموسيقى النوبة، ووعود بلقاء العام القادم فى مهرجان المسرح الرابع.
ولكن التحديات كانت كبيرة، ليس هذه المرة بسبب الدولة وأجهزتها. بالعكس فالحقيقة أن المهرجان حظى باهتمام ودعم الدكتورة ايناس عبدالدايم فى كل مراحله، وقام السيد محافظ أسيوط اللواء جمال نورالدين برعاية المهرجان وحضور حفله الختامى كما حضر نائبه المهندس عمرو عبدالعال جلسة الافتتاح، وقدم الدكتور أحمد عواض رئيس هيئة قصور الثقافة كل إمكانات الهيئة كما شارك فى فعالياته، وتدخل الدكتور خالد عبدالجليل رئيس الرقابة على المصنفات الفنية لتذليل عقبات اللحظة الأخيرة، وسهر مسئولو وموظفو مديرية ثقافة أسيوط مع منظمى المهرجان كل يوم حتى الثانية صباحا.
ولكن برغم كل هذه المساندة فإن كل لحظة وكل تفصيلة فى المهرجان عبرت عن التحدى. التحدى فى أن يشارك هذا العدد من العروض المسرحية من مختلف أنحاء الصعيد ليس فقط من العواصم والمراكز بل من القرى أيضا، والتحدى فى أن يقدم أعضاء فرقة «النور» المكفوفين عرضا مسرحيا مليئا بالحيوية والنشاط والموسيقى بل والرقص، والتحدى فى أن تقف الفتيات على خشبة المسرح لتأدية أدوارهن بقوة وثقة واصرار، والتحدى فى ان تتعرض المسرحيات المعروضة لقضايا المجتمع وتنادى بالتحرر والعدالة والمساواة، والتحدى فى أن يجمع المهرجان هذه المواهب الشابة مع خبرات كبار الكتاب والنقاد بموارد وامكانات محدودة للغاية معتمدا على جهود المتطوعين وحماس المنظمين وحسن نوايا الضيوف وتحملهم للمشقة.
ولأنها تجربة جديدة بالنسبة لى فقد استفدت منها كثيرا.
أكدت لى أن المجتمع لا يتغير حقيقة إلا حينما يكون افراده مشاركين فى التغيير ومسئولين عنه. اقدام الفتيات على التمثيل والتعبير عن أنفسهن وعن قضايا مجتمعهن الشائكة لم يكن بسبب قيام مجالس المرأة ولا الجمعيات والمؤسسات الرسمية والأهلية بالدعوة لهذه المشاركة والانفاق عليها ورصدها على خريطة هذا العام، بل لأنها عبرت عن اختيارهن الحر والواعى ولأن كل واحدة منهن قدرت ما تحب أن تفعله وما يتحمله المجتمع المحيط بها وكيفية تعاملها مع عواقب اختيارها. أما التغيير من الاعلى فلا يأتى إلا بنتائج سطحية ومؤقتة، ما أن ينضب تمويلها أو يخفت الاهتمام الرسمى بها حتى تعود المياه تدريجيا لمجاريها السابقة.
وأكدت أيضا أن التعامل مع الطائفية لا يكون بالأمن والقانون فقط، وكلاهما ضرورى لمواجهة هذا الخطر الداهم، ولكن كذلك بايجاد المساحات التى يتعامل فيها الشباب والشابات المسلمون والمسيحيون معا تعاملا طبيعيا، صحيا، فيه حرية واحترام متبادل وندية. هكذا حضرت فرق المسرح الصعيدية ومعظمها يضم أعضاء من الديانتين، يجمعهم حب المسرح والتمثيل، والحماس للتجربة، والرغبة فى التميز والفوز بالمركز الاول. وهم بهذا تجاوزوا كل ما يقال ويكتب عن المواطنة والمساواة وتجديد الخطاب الدينى لأنهم ببساطة مارسوا المساواة بدلا من أن يتكلموا عن أهميتها.
وأبرزت أهمية دور الدولة فى دعم الثقافة الشعبية والمحلية فى المدن والمحافظات وتجاوز المركزية الثقافية الطاغية للقاهرة والإسكندرية. وهذا الدعم لا يأتى بالدعم المالى وحده أو بفتح قصور الثقافة لمختلف انواع الفنون والابداع بل أيضا بتحرير مناخ التفكير والتعبير وتوفير الموارد اللازمة من موازنة الدولة لدعم الثقافة وتقديم الفرق المسرحية والموسيقية والأدبية فى المناسبات التى ترعاها الدولة بدلا من اعتبار فرق العاصمة هى الوحيدة المعتمدة رسميا.
مهرجان الصعيد للمسرح كان فى النهاية تجربة إقليمية متواضعة قد لا ترقى لمستوى المهرجانات الكبرى التى تستحوذ على الاهتمام الإعلامى الواسع، ولكنها بالتأكيد تجربة ثرية بالتحديات والنجاحات وقابلة للتطوير لأنها نابعة من واقع الصعيد ومتعاملة بإمكاناته. لذلك، وبعد تفكير فقد انتهيت إلى أن شعار «ابداع يتحدى الواقع» لم يكن موفقا لان مهرجان الصعيد للمسرح الحر كان فى الحقيقة إبداعا يغير الواقع.