ما إن تناقلت وسائل الإعلام مشاهد اقتحام أنصار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب مقر الكونجرس «الكابيتول» مساء الأربعاء الماضى لتعطيل اعتماد نتيجة انتخابات الرئاسة التى فاز فيها جو بايدن، حتى بدأت حملات على مواقع التواصل الاجتماعى فى العالم العربى تهاجم الديمقراطية الأمريكية التى فشلت فى فرض الاستقرار وسمحت بالفوضى واقتحام المؤسسات.
بعض من تصدروا لحملة الهجوم، تناقلوا صورا لمقتحمى مقر الكونجرس وهم يعيثون فسادا بمكاتب مسئولى الكونجرس، وسجلوا مع تلك الصور تمنياتهم بتصاعد الأزمة، «حتى تشرب أمريكا من نفس الكأس التى شربنا منها إبان أحداث الخراب العربى» على حد وصف أحدهم، ووصل الأمر إلى أن بعضهم تحدث مبكرا عن أمريكا قد تذهب إلى حرب أهلية.
أراد هؤلاء أن يبعثوا برسالة إلى الحالمين بتأسيس أنظمة ديمقراطية فى بلادنا، مفادها أن «الفوضى هى المعادل الموضوعى لديمقراطيتكم المزعومة.. واحمدوا ربنا على نعمة الاستقرار»، بعضهم حاول أن يقنع متابعيه أن «نهاية أمريكا قد اقتربت، ولن تشفع لها ديمقراطيتها».
وجد هؤلاء فى فوضى الساعات الأربع التى جرت فى محيط وأروقة الكونجرس، فرصة لتبرير ما تمارسه أنظمة دول الشرق الأوسط من استبداد وقمع وتلاعب بإرادة شعوبها، ولتيئيس الناس من المسار الديمقراطى.
لم تمض سوى 4 ساعات كما ذكرنا، حتى تبخرت دعاوى هؤلاء الشامتين الداعون إلى التمسك بالاستبداد، تجاوزت المؤسسات الأمريكية تصرفات الرئيس المتهور وأنصاره، واجتمع الكونجرس، وصادق نائب الرئيس الجمهورى مايك بنس الذى ترأس الجلسة المشتركة بصفته رئيسا لمجلس الشيوخ، على نتيجة تصويت المجمع الانتخابى الذى صب لصالح بايدن.
فى تلك الجلسة هاجم زعيم الأغلبية فى مجلس الشيوخ السيناتور الجمهورى ميتش ماكونيل رئيسه ترامب، ودعوته إلى إلغاء نتائج الانتخابات، «إذا ألغيت هذه الانتخابات استجابة لمزاعم الطرف الخاسر، فستدخل ديمقراطيتنا فى دائرة الموت، ولن نرى ثانية إقبال الأمة بكاملها على التصويت فى الانتخابات كل أربع سنوات، بل سيندفع كل طرف للفوز بالسلطة بأى ثمن».
بحسب ما نقلته شبكات تلفزيوينة أمريكية، قرر عدد من المسئولين فى إدراة الرئيس الأمريكى القفز من سفينته وأعلنوا استقالتهم عقب أحداث اقتحام «الكابيتول»، فيما بحث عدد من وزرائه إمكانية تنحيته، وناقشوا إمكانية تفعيل التعديل الخامس والعشرين للدستور الأمريكى، ويسمح هذا التعديل لنائب الرئيس وأغلبية أعضاء الحكومة أن يقيلوا الرئيس إذا ما وجدوا أنه «غير قادر على تحمل أعباء منصبه»، والرئيس الأمريكى أصبح «خارج السيطرة» من وجهة نظرهم.
مواقف المسئولين الأمريكيين «جمهوريين وديمقراطيين» كانت من منطلق الحفاظ على القواعد الديمقراطية التى أُسست عليها الولايات المتحدة، والتى حاول ترامب العبث بها. قرر هؤلاء تنحية انحيازاتهم الحزبية جانبا، وتمسكوا باحترام الدستور والقانون والأعراف حتى لا تتحول أمريكا إلى دولة من دول العالم الثالث التى قال ترامب إن انتخاباتها أفضل من انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة فى كلمة له قبل دقائق من عملية اقتحام الكونجرس.
انتفاضة المسئولين الأمريكيين الحاليين والسابقين ورفضهم لما جرى دفع ترامب إلى إعلان قبوله نتائج الانتخابات «رغم أننى اختلف كليا مع نتيجة الانتخابات، والحقائق ظاهرة بالنسبة لى، مع ذلك سيكون هناك انتقال منظم للسلطة فى 20 يناير..».
ما جرى ليس دليلا على إخفاق المسار الديمقراطى كما تسرع البعض واعلن فى بلادنا، بقدر ما هو دليل على أن الديمقراطية قادرة دائما على تصويب أخطائها، فمادام هناك إيمان راسخ بالديمقراطية كضرورة لبناء الدول واستقرارها وتقدمها، وطالما تمسكت المجتمعات بهذا الإيمان، فلن تنجح أى محاولات للعبث بقواعد احترام القانون والدستور وتداول السلطة حتى لو وصل إلى أعلى هرم السلطة شخص مختل ومستبد.
محاولات الهروب من الشروع فى بناء نظام ديمقراطى، والتمسك بالاسبتداد لن يؤدى إلا إلى التخلف والفقر والمرض والجهل والفوضى التى لا يمكن السيطرة عليها.