نشرت مدونة ديوان التابعة لمركز كارنيجى مقالا للكاتب مروان المعشر، كما نشر موقع 180 مقالا للكاتب نصرى الصايغ، تناول الكاتبان فى مقاليهما خيار الكفاح المسلح الذى بدأ يتزايد لدى الجيل الفلسطينى الجديد. هذا الجيل ينبض بالحياة والنضال، لا يعرف غير البندقية والدم، فقد ثقته فى قيادته الفلسطينية والدول العربية والمجتمع الدولى لتحرير بلاده وحل الصراع، فقرر الاعتماد على نفسه وتحمل العواقب.. نعرض من المقالين ما يلى.
لم تمض بضعة أسابيع على تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة، حتى بدأنا نشهد ردود فعل عربية ودولية وداخلية تستحق التوقف عندها. نبدأ بالموقف الأمريكى وزيارة وزير الخارجية الأميركى بلينكن إلى إسرائيل. فقد أعلن بلينكن فى مؤتمر صحفى أن أى ابتعاد عن حل الدولتين سيضر بأمن إسرائيل، كما أعلن معارضة الولايات المتحدة لبناء المستوطنات أو توسيعها، إلا أنه فى الوقت نفسه كرر الموقف الرسمى الأمريكى عن هدف الولايات المتحدة فى المدى القصير، وهو ضمان التهدئة بين الجانبَين، ريثما تصبح الظروف أكثر مواءمةً لاستئناف المفاوضات المبنية على أساس حل الدولتين.
من الواضح أن الموقف الأمريكى متناقض مع نفسه، فالحديث عن الظروف الملائمة لاستئناف المفاوضات، من دون أى إجراء فعّال يهدف إلى وقف بناء المستوطنات، لن يحقق هذا الهدف، والحديث عن حل الدولتين فى هذا السياق يندرج تحت باب إبراء الذمة فقط، بينما يعطى فى الواقع إسرائيل كل الوقت المطلوب للاستمرار فى سياستها الاستيطانية التوسعية، والقضاء تمامًا على حل الدولتين.
أما أردنيًا كما عربيًا، فإن السياسة المتبعة مع الحكومة الإسرائيلية عنوانها التكيف، ومفادها أن ثمة واقعًا إسرائيليًا لا يمكن تجاهله أو مقاومته، لذا من الأفضل الاشتباك الإيجابى معه لعل ذلك يخفف من وطأة تأثيره فى العملية السلمية، أو وحدة موقفه من مواضيع كالوصاية الأردنية على المقدسات الإسلامية.
عربيًا، ثمة تجاهل غريب من أغلب الدول العربية تجاه ما يحدث داخل المناطق التى تسيطر عليها إسرائيل من تمييز عنصرى فاضح. فالاتفاقات الإبراهيمية الموقعة مع إسرائيل لم تسهم، ولو فى حدود دنيا فى تليين الموقف الإسرائيلى، بل إن الحكومة الإسرائيلية الجديدة هى الأكثر تطرفًا وعنصرية فى تاريخ الدولة اليهودية، كما أن العالم العربى بأسره لم يشهد حتى الآن أية مواقف جادة معارضة للتمييز العنصرى، الذى يمارَس كل يوم داخل الأراضى العربية المحتلة وضد فلسطينيى وفلسطينيات الداخل. لا يُستغرب إذًا مع هذه المواقف العربية والدولية المرنة، والامتناع عن اتخاذ مواقف أكثر وضوحًا فى الوقوف ضد الممارسات العنصرية الإسرائيلية وتلك التى تقوّض عملية السلام برمتها، أن نشهد اليوم ردّ فعل فلسطينيًا داخل الأراضى المحتلة يتسم باستخدام السلاح ضد الإسرائيليين.
• • •
إن الانتفاضة الفلسطينية الثالثة بدأت فعلا، وهى عكس الانتفاضتَين الأوليَين بلا قيادة، وأن الكفاح المسلح هو سمتها الرئيسة. وقد أشارت استطلاعات الرأى الفلسطينية كافة منذ سنوات كثيرة إلى أن خيار الكفاح المسلح يتزايد لدى الجيل الفلسطينى الجديد تحت الاحتلال، فى ظل غياب أى أفق سياسى لإنهاء الاحتلال. يبدو من الواضح اليوم أن هذا الجيل الجديد فقد ثقته بقيادته الفلسطينية، وبقدرة الدول العربية أو المجتمع الدولى على حل الصراع وإقامة دولته الفلسطينية، وأنه اتخذ قرارًا بالاعتماد على نفسه وأخذ زمام الأمور بيده، وتحمّل كل العواقب جراء ذلك، التى باتت لا تقاس مقارنةً بمعاناته اليومية.
الفلسطينى الجديد لا يقول. يفعل. يأتى من الحضن المضاء بالدماء. هو لا يحتاج إلا لدمه. دمه ينطق فعلا. يصيب ويبث الهلع فى قوافل العسكر المعادى. دمه أيقظ أملا. كل الآمال السالفة تعثرت بالأخطاء والانعطافات والمساومات.. المقاومات الفلسطينية أنفقت دماءً بلا جدوى.
الفلسطينى الجديد، لا يشبه أبدا ماضى النضالات الفلسطينية الخاسرة. تضحيات شاهقة. خسائر فادحة. دماء كثيرة أمينة ومؤمنة ذهبت هباء.. ما أقدمت عليه القوى الفلسطينية المسلحة كان وبالا. الغريب، فى ذلك الزمن الردىء، أن التناقض الذى حصل، هو تناقض بين المقاومة الفلسطينية والأنظمة العربية المحيطة بإسرائيل. حاولت منظمات التحرير أن تتشبه بعساكر الدول العربية. علما أن هناك فرقا وتناقضا، بين العسكرة والمقاومة. لقد عسكروا المقاومة. فشلوا. وطُحنت فلسطين مرارا.
يومها، فرحنا بالتهديدات اللفظية. كدّسنا الخسائر. ظلت فلسطين المحتلة فى عراء. الفلسطينى الجديد، لم يعد يُصدّق الإذاعات والتصريحات. لا يُصدّق إلا على قبضته ودمه. التهديدات اللفظية مجرد «بوب كورن».
الفلسطينى الجديد ليس وحيدا أبدا.. فى قطر الرياضية، وجدت الشعوب العربية فرصة سانحة للتعبير بالعلم الفلسطينى. انتماؤها لفلسطين، وليس لإماراتها وممالكها وأنظمتها القمعية الرهيبة. عبّرت شعوب عربية بأسلوب مضاد لكذب السلطات العربية. برهنت هذه الشعوب على انتمائها وحبها بحناجر فلسطينية.. ومداها، من المحيط إلى الخليج. الشعوب العربية الملزمة بالصمت السياسى، أفصحت قليلا فى احتفالات كرة القدم فى قطر.. هذه الشعوب هتفت لفلسطين. كانت الغائب الأكثر حضورا. هذه الشعوب حملت أعلام فلسطين. كان الحضور العربى هناك يقظة أحلام مكبوتة. حضور رفض «المرحبا» الإسرائيلية. أشعَر «الإسرائيلى» أنه عدو وسيبقى كذلك.
مئات الملايين من العرب هم فلسطينيون مكتومون. العقوبات السلطوية العربية مريعة. عقوبة الانتماء إلى فلسطين فى بعض دول النفط وملوك المال، هى الإلغاء والطرد. يضاف إلى تلك الممالك جمهوريات القمع.
ألم يلحظ العرب أن فلسطين مُغيبة بقرارات دولية وعربية عن الشاشات التلفزيونية؟ فلسطين ممنوعة. أما إسرائيل، فهلا بالضيف.. بل نحن الضيوف وأنت رب المنزل. هكذا بكل وضوح. يصير الكذب العربى سياسة نبذ للقضية، وسياسة رفع العار جائزة. هذا إعلام استبدادى. مكبل. منافق. يكره الحقائق والوقائع.
هل نبالغ عند القول: لا إعلام عربيا فى هذه البلاد (العربية) بالاسم فقط، وعليه، لا بأس بالاعتياد على الخيانات واعتبارها سياسات واقعية. الواقعية الفاضلة، هى واقعية مضادة للحرية والإنسان والعدالة والشعب.
الفلسطينى الجديد خرق طقس العبث العسكرى. ليست كل البنادق صائبة وتُصيب.
هل كانت قوى منظمة التحرير تشبه بنية الجيوش العربية؟ ثم، هل بنية المقاومة الفلسطينية بنية مناسبة للتحرير؟ ثم، متى حصلت مواجهات بين جيش إسرائيل وجيوش عربية، وانتهت إلى عرب منتصرين؟ لندخل فى صلب الموضوع. هل مسموح أن نستعيد التجربة العسكرية والتجارب الفلسطينية؟ أليس من الضرورى أن نتجرأ على النقد من دون التشفى، بل النقد المُنطلق من الانتماء أولا، وعلى قاعدة الخسائر والنجاحات ثانيا. لنبدأ من البدايات. تحمست الجيوش العربية لمنع إقامة إسرائيل. خسرت هذه الجيوش (مصر، الأردن، سوريا ولبنان) المعركة وتراجعت ذليلة ومُذلة. إسرائيل العصابات، هزمت عرب الجيوش.
لنتذكر الخامس من يونيو 1967. جيوش عربية جرّارة، دُمِّرت منذ الطلعات الأولى للطيران الحربى الإسرائيلى. راحت كل فلسطين. (الضفة العربية التحقت بالغربية). احتلت شبه صحراء سيناء، ومساحتها ضعف مساحة فلسطين. خسرت سوريا مرتفعات الجولان. الجيش المصرى تعرى. طائراته جثت فى مرابضها. فاضت سوريا البعث خطبا واتهامات. إسرائيل الصغرى تقدّمت على جيوش جرّارة غير صالحة للتحرير.. استبدلت التحرير، بالقمع. الشعوب العربية رفضت الهزيمة. حملت الأنظمة المسئولية.
الفشل هنا، أفدح من الخيانة. حاولت الأنظمة المهزومة أن تسترجع هيبتها. فكانت حرب تشرين؟؟؟؟. لم يفز العرب بتحرير حبة تراب فلسطينية. خسروا جميعا. الثمن كان باهظا جدا. عبرت القوات الإسرائيلية قناة السويس، صارت الطريق إلى القاهرة سالكة. ماذا فعلت الأنظمة بعد ذلك. زادت قبضتها على شعوبها. كوفئ المواطن العربى الحزين بقيود الصمت والقمع.
ليس هذا ما نريد التوقف عنده. إنه معلوم جدا. ولكن الكتابة هنا للتذكير.
• • •
باختصار، لا تصلح الجيوش للتحرير. ولا تصلح الخطب كذلك. ولا تصلح المقاومة المكشوفة أبدا. أما الفلسطينى الجديد، لا يقاتل اليوم خارج أرضه. إنه يُصوّب ويصيب. إنه يزيد الشرخ بين الإسرائيليين. الفلسطينى الضعيف، المذل، المنهك، المدمر، ما زال ينبض حياةً ونضالا. موته بندقيته وقنبلته. ثم سكينه لا يجرح فقط، يل ينغرز. تضحياته ثمار يانعة حمراء، طعمها حلو الشهادة. الفلسطينى الجديد، لم يعد يسأل لماذا سلطته، بنت المقاومات العلنية الفاشلة، تحاصره وتلاحقه. الفلسطينى الجديد، موجود فى كل مكان. قبضته وسكينه ومسدسه وبندقيته، كلها تصلح فقط لإصابة الهدف: إبقاء الإسرائيلى على سلاحه خائفا وإرباكه بالسؤال الكبير: «هل سنبقى هنا أم نرحل»؟ الجواب لم ينضج بعد، ولكنه قيد التداول.
غزة باقية. الضفة باقية. فلسطين، بدأت المسيرة إليها، دما دما، جرحا جرحا. ما أفصح الصمت. الفلسطينى الجديد، يرى ما لا نراه. يرى فلسطينه، بلون الفجر الذى يشبه دمه. وهذا الكلام ليس شعرا. إنه ضوء القمر الذى يكتسح عتمة الظلم والظلام العربيين. أما الغرب فحسابه سيكون بطريقة أخرى. وتحديدا، عندما يصبح المواطن العربى، متحررا من أنظمة الاستبداد والفساد وغيرهما.
لا يحق للمجتمع الدولى الاستغراب مما يجرى من عنف، طالما أنه يكتفى بالمواقف اللفظية والمرنة. لقد حان الوقت لكشف الممارسات الإسرائيلية ونيّتها الإبقاء على الاحتلال للأبد. ولا بد من أن يكون فحوى الموقف العربى، أننا لسنا ضد السلام، ولكننا ضد العنصرية، وسنقف ضدها بكل وضوح ومن دون مواربة.
النص الأصلى:
http://bitly.ws/zX9v
http://bitly.ws/zX9y