نشر موقع قنطرة مقالا للكاتب «إبراهيم مشارة» تناول فيه الحديث عن الدكتور زكى نجيب محمود ومحاولاته فهم أسباب الرجعية والتخلف الذى تعانى منه الأمة العربية والذى أرجعه إلى غياب العلم الذى يساعد الإنسان على فهم الطبيعة وقوانينها وتيسير حياته... نعرض منه ما يلى:
ثمة مأزق حضارى وقعت فيه الأمة العربية، منذ سقوط بغداد على يد المغول سنة 656هـ/ 1258م ودخول الأمة عصر الظلمات، وما انجر عن ذلك من تردى الأوضاع السياسية وتقهقر الحياة الاجتماعية. وأكثر النواحى التى تتجلى فيها الأزمة هى الناحية الثقافية.
فقد كفت الأمة عن الإبداع واكتفت بثقافة الاجترار وشاعت ثقافة المتون والحواشى والتعليقات، وفى خضم هذه الأزمة غُيِّب العقل وكف عن أداء مهامه، واكتفى المسلمون بالتقليد فى حياتهم الدينية، وكفوا عن النظر إلى الطبيعة لإدراك أسرارها واستجلاء نواميسها وترويضها لمصلحتهم واستعاضوا عن ذلك كله بالنظر فى الكتب القديمة وكأنها الكلام الذى لا يعلى عليه، والثقافة الحقة.
ثقافة كلام وأسجاع
وترتب على ذلك أن لازمتهم عقدة نقص إزاء الماضى ورموزه، فهو الكمال وهم النقص وهو الحقيقة وهم الباطل. وحتى الأدب الذى هو مظهر من مظاهر النشاط الفردى البحت حيث يعبر الإنسان عن «أناه» دخل فى الركاكة والإسفاف فى القول، وأهمل المضمون لحساب الشكل.
وزاد الطين بلة انتصار الغزالى فى سجاله وجداله مع ابن رشد ــ وهو انتصار موهوم ــ صنعته الدهماء والعامة، إن هذا النصر الزائف قضى على روح الإبداع وألجم العقل، وجعل ثقافتنا ثقافة كلام وأسجاع وولوع بالغيبيات أكثر من اللازم.
وتجذرت فى الأمة روح الزهد، فالدنيا دار خسار وتباب، والعاقل هو الذى يدير ظهره لدنياه مقبلا على آخرته ووجدت هذه الأفكار المريضة ترجمتها وتجسدها فى تجذر التصوف وشيوع طرقه وتأله رموزه عند العامة، وأصبح شعرهم وكلامهم حجة الله البالغة وأفعالهم آية الرشد والكمال، ونظرة واحدة على تراث هذا العصر تؤكد أن العصر هو عصر الكلام والأسجاع والولوع بالماضى لا عصر الأفعال والمضمون والتعلق بالحاضر.
الاستثناء «الوحيد»
ولعل الاستثناء الوحيد فى هذا العصر هو ظهور مفكر واحد من طراز ابن خلدون، ولعل الأثر الوحيد الخليق بالنظر الجدير بالاعتبار هو مقدمته وأما ما سوى ذلك فاجترار وكلام فى كلام.
ولقد دام هذا العصر إلى الحملة الفرنسية على مصر 1798 / 1801 بقيادة نابليون بونابرت، الذى جلب العلماء والمهندسين والأطباء وعلماء الكيمياء. ولقد قارن بعضهم بين ما وصل إليه الفرنسيون من نظافة بدن وهندام وما أحرزوه من علم وبين ما يميز حياتهم من ضعف ووسخ وجهالة وعماء، فأدركوا الفرق. ومما يبعث على الأسى ويحز فى النفس اشتغال البعض الآخر بالبحث فى اسم نابليون أهو معرب أم مبنى؟
فى هذا التاريخ أى عام 1798 دخلنا عصر بحث المشكلة بإدراك نقصنا وتخلفنا بعد أن ظننا أننا الكمال والنهضة، وبفضل مطبعة «بولاق» التى جلبها نابليون وبفضل البعثات العلمية إلى الغرب ظهر لأول مرة جيل من المفكرين المعنيين بالنهضة ومشكلة التخلف، من طراز: رفاعة رافع الطهطاوى ويعقوب صروف وصولا إلى طه حسين وسلامة موسى.
وفى هذا الجيل عاش واجتهد وفكر وقدر الدكتور زكى نجيب محمود الذى ولد عام 1905، ولقد كانت صحبته للعقاد ودراسته فى إنجلترا (قسم الفلسفة) حيث نال الدكتوراه، أضف إلى ذلك الهم الذى لازمه والمشكلة التى عنى بها وهى مشكلة التخلف المتجلية فى الرجعية، والتقليد وإهمال العقل والولوع بالكلام على حساب الفعل، واستبداد السياسة وغياب الحريات، وإهمال الطبيعة ومباهجها ومجاهلها بالركون إلى الزهد والولوع بالتصوف، والميل إلى الجانب الدينى على حساب الجانب الدنيوى، وترك روح المغامرة وبهجة الاكتشاف لحساب روح الجمود والاكتفاء بالاجترار من الكتب القديمة، كل هذه التجليات لمشكلة التخلف كانت فى صميم تفكير الدكتور زكى نجيب محمود.
لقد اعتنق هذا المفكر الوضعية المنطقية، وتتلخص فلسفة الدكتور زكى نجيب محمود فى كون مشكلة التخلف التى يعانى منها المجتمع العربى سببها الرئيسى هو إهمال العلم ــ ونقول العلم بالمفهوم الكونتى ــ أى العلم كما مارسه جاليليو ونيوتن وكبلر، وهو العلم الذى يقصر نشاطه الغالب على الطبيعة حيث يحيا الإنسان وحيث يجب عليه فهم آلية عمل الطبيعة بنواميسها الخالدة، ومن ثم الاستفادة من تلك القوانين فى اختراع ما ييسر حياة الإنسان ويجعلها حياة رخية ميسورة.
انقلاب معرفى جعل الإنسان محورا للكون
لقد كان عصر الأنوار فى أوروبا بداية لنهاية مرحلة من مراحل التاريخ البشرى، وتجد هذه النهاية دلالتها فى نظرية كوبرنيك (الهليوسنترزم) أى مركزية الشمس لا مركزية الأرض للكون (الجيوسنترزم). وكان هذا انقلابا معرفيا جعل الإنسان محورا للكون وسيدا على الطبيعة، يستخدم عقله وحده فى اكتشاف مناهج البحث العلمى ومن ثم تطبيق هذه المناهج على الطبيعة والإنسان والتراث. والعقل هنا حر، مرن، خلاق لا حد لقدراته ولا رادع لآفاقه، يكتشف ويصل إلى الحقيقة بحرية وديناميكية لا نظير لهما وبلا وصاية كهنوتية.
إن هذا العلم كما عرفته أوروبا ومارسته هو الذى أخرجها من الظلمات إلى النور ويسر حياتها، بأن قضى على الكهنوت واستأصل الاستبداد السياسى والقهر الفكرى وأصبح كل موضوع قابلا للبحث وللمتابعة العقلية بموضوعية وأمانة فكرية ليس فى الطبيعة وحدها بل وفى الإنسان وتراثه القديم (المقدس والوضعى) معا.
وولع الأستاذ الدكتور زكى نجيب محمود بالعلم لا حد له فهو حاضر فى مقابلاته ودروسه ومؤلفاته فغيابه بحسب رأيه أدى إلى الكارثة، والعلم كما تفهمه الوضعية المنطقية وكما يفهمه زكى نجيب محمود كل لا يتجزأ، ففى الطبيعة علم، وفى التاريخ علم وفى دراسة نصوص الأدب وتحقيقها علم، وفى السياسة علم وفى دراسة الحياة الاجتماعية علم، لأن العلم هو النظر إلى الشىء كما هو بموضوعية لكشف غامضة وفهم آلية عمله، فتحقيق نص أدبى قديم هو علم تماما كدراسة ظاهرة طبيعية، فالروح العلمية فى كليهما واحدة وإنما تتباين المناهج والطرائق.
وقد نجح زكى نجيب محمود فى أسلوب كتابته فهو من السهل الممتنع، قوامه الألفاظ الدقيقة المعنى، والبعد عن الحشو والإطناب. وتجدر الإشارة إلى أن الوضعية المنطقية ترى فى اللغة خادما للفكر وأن اللغة السليمة هى التى تعبر عن المعنى بمفردات قليلة، وهذه ميزة أسلوب فيلسوفنا وكاتبنا، فما عرف فى أسلوبه حشو أو إطناب أو خروج عن الموضوع وما عرف عنه التكلف والاهتمام بجودة الصياغة وأناقة التعبير، فهمه كان منصبا على المعنى لا الشكل والمعنى هو القول الثقيل الذى أراد إيصاله إلينا، على أن هذا لا يعنى إهمال اللغة بالخروج على قواعدها ــ جهلا أو تعمدا ــ وإنما لكل مقام مقال.
وهو فى دراساته النقدية لأدبنا الحديث يكشف عن ذوق فنى كما لا يخفى إعجابه بشعر النابغة الذبيانى، ولا يخفى إعجابه بالنزعة التجديدية فى شعراء الرومانسية الشباب كالهمشرى والشابى والتيجانى بشير يوسف، وهو لا يجارى بعض النقاد أو الشعراء فى التخلى عن الوزن، فالشعر موسيقى فى الصميم وهو يأخذ على أحمد عبدالمعطى حجازى إهماله الوزن فى بعض قصائده فى ديوانه الأول وقد اعتبرها خسارة كأن المعنى سُكِبَ على الأرض سكبا بغير قالب يحفظه، وهو مع شعر التفعيلة ولكن كما مارسه الكبار السياب، والملائكة وعبدالصبور وغيرهم وكل هذه الآراء فى كتابه القيم «مع الشعراء».
روح الاجترار لا الابتكار وميزة التقليد لا التجديد
وفى كتابه المعقول واللامعقول فى تراثنا الفكرى عاد الدكتور زكى نجيب محمود إلى دراسة التراث العربى فوجد أنه تراث مطبوع بطابع اللامعقول، موسوم بسمة التنجيم، روحه روح الاجترار لا روح الابتكار وميزته ميزة التقليد لا التجديد.
إنه تراث عمى عن رؤية الكون والتأمل فى الطبيعة بحرية وروح مغامرة واكتفى بتوليد الكلام من الكلام فى شكل حواشٍ وتعليقات يحتل الجانب الدينى الحيز الأكبر، وتغيب الدنيا بأسرارها ومجاهلها ومباهجها عن أبصار أسلافنا، وانتقلت عدواهم إلينا، فواصلنا السبات وأسلمنا قيادنا لغيرنا يمارس البحث والتفكير والاكتشاف نيابة عنا، مع أننا نحن الذين أعطينا العالم ابن رشد والبيرونى وابن الهيثم وابن سينا والتوحيدى وابن خلدون.
لقد كان الدكتور زكى نجيب محمود مفكرا تصدى لمشكلة التخلف والرجعية، وكان عمله أشبه بالطبيب الذى أجرى الفحوص وقام بالتحاليل واستقصى الأعراض فعزل الداء وسمى الميكروب وأوصى بنوع العلاج الذى يستأصل الداء ويجلب العافية، كان كذلك فى عمله الأكاديمى بالجامعة وفى محاضراته وفى مقالاته وفى مؤلفاته، وهو نموذج للمثقف الملتزم بقضية الشعب والوطن المخلص فى العمل بلا محاباة أو رياء.
ومما يؤسف له أعمق الأسف أننا مازلنا فى موقعنا من خط سير التاريخ نقدم رجْلا ونؤخر أخرى، ضعفت ثقتنا بأنفسنا إزاء أسلافنا، وعدنا إلى الدجل، والولوع بالكلام والجرى وراء السراب، وإطلاق لقب العالم على من لا يستحقه، وفى الطبع اللا منتهى لكتب السحر والشعوذة وتفسير الأحلام.
وكان مما آلم الدكتور زكى نجيب محمود رسالة وصلته من طالب سفه فيها فلسفته ووضعيته المنطقية لأنه نجح بفضل حرز كتبه له أحد الشيوخ، ومرة أخرى حين تمنى لو يقدر فيقوم ليغرس الأشجار حتى يرى سريعا ثمرة عمله، فتقر عينه بعد عمر قضاه باحثا وعالما وكاتبا مخلصا لعقيدته وأمته. فعزل الداء، ولكن الأمة لم تُلقِ بالا لنصيحته مصرة على غيها مدعية أن الداء هو غير الذى عزل الكاتب، مواصِلةً تمددها على خط الزوال كما قال الشاعر صلاح عبدالصبور.
النص الأصلى