لا يوجد بلد فى العالم يقترن تاريخه وحضارته بالأرض والزراعة مثلما هى مصر، وتاريخ الزراعة هو بدء تاريخ مصر وأول مراحل الحضارة والاستقرار لهذا الشعب العظيم. وبالرغم من ذلك تشير الإحصاءات أنه فى الفترة من 1952 ــ 1984 فقدت مصر من أراضيها الزراعية نحو 570 ألف فدان بسبب التوسعات العمرانية، ومن 1982 ــ 2000 فقدت مصر مليون فدان، ومن 2000 ــ 2010 فقدت مصر نصف مليون فدان، وأثناء الفترة المضطربة من تنحى مبارك وحتى ثورة 30 يونيو، استغل ملايين الأفراد الفرصة وقاموا بالتبوير والبناء العشوائى دون ضوابط، ففقدت مصر مليون فدان أخرى من أجود الأراضى الزراعية، إلى أن توقفت تلك الاعتداءات منذ تولى الرئيس السيسى قيادة البلاد، وأولى سيادته الزراعة اهتماما بالغا.
وفى ظل الصراع العالمى واضطراب سلاسل الإمداد العالمية وأزمات الغذاء التى تلوح فى الأفق بين الفينة والأخرى، فلنسأل أنفسنا عن تلك الملايين من الأفدنة من أجود الأراضى الزراعية التى تم تبويرها فى الوادى والدلتا، كم كانت ستسهم فى إمداد مصر بالغذاء؟ كم دفعت مصر من مليارات منذ عقود طويلة لاستيراد القمح لرغيف العيش؟ كم كان يمكن أن ننتج من تلك الأرض الطيبة من منتجات للتصدير للأسواق العالمية؟ كم مليون مواطن كان سيعمل فى الإنتاج الحقيقى من تلك الأرض الزراعية وهى نشاط اقتصادى حقيقى كثيف العمالة؟.
• • •
من جهة أخرى وعند المقارنة، فالأرض الزراعية هى مورد إنتاجى أصيل ومستمر وتؤسس وتقوم عليه عشرات الأنشطة الاقتصادية والصناعية.. أما المدينة فهى مستهلكة بطبيعتها وإن أنتجت، والمدينة تأخذ أكثر مما تعطى، فى حين أن الأرض الزراعية تعطى أكثر مما تأخذ.
وقد ترامت الأنباء مؤخرا عن التوجه نحو إنشاء مدينة جديدة فى وسط الدلتا هى مدينة طنطا الجديدة على مساحة 298 فدانا، وموقع مدينة طنطا الجديدة المزمع البناء عليها، يمثل جزءا من أرض الدلتا الزراعية التى تعد من أخصب الأراضى الزراعية فى العالم، وقد تكونت عبر آلاف السنوات من تراكم الطمى الغنى لفيضان النيل، ولن يقتصر الأمر على ذلك بل سيتطلب أن تمد إليها المرافق والبنية الأساسية ووصلات الطرق وشبكات النقل والمواصلات بأنواعها، إذن فلنضف على الأقل 100 فدان أخرى للمساحة المقررة.
اليوم طنطا الجديدة، وغدا بنها الجديدة، وبعد غد المحلة الجديدة، ودمنهور الجديدة، والمنصورة الجديدة، ثم المنطقة الصناعية بقويسنا والمنطقة الصناعية بشبين الكوم وغيرها من المناطق الصناعية التى تقام على الأرض الزراعية الثمينة، ثم نضف إلى كل ذلك القرى المتوسعة والنامية حثيثا على حساب الأرض الزراعية التى لا يمكن تعويضها.
من جهة أخرى، فالأرض الزراعية مهما بلغت مساحتها معرضة للتفتيت بالميراث، وعبر عدة أجيال تتوارثها دون تنمية ويصبح استغلالها غير اقتصادى، فالملاك يتحول أبناؤهم لمزارعين متوسطى الحال بعد تفتيت الأرض بينهم بالميراث، وكذلك يتحول الأحفاد بنفس النهج إلى مزارعين رقيقى الحال بما يصل إليهم بالميراث جيلا بعد جيل من مساحات قزمية محدودة.
ماذا يفعل ملاك كسور الفدان بقراريطهم الضئيلة؟ وماذا يفعلون وهم يرغبون فى تزويج أبنائهم الذين ضاقت بهم بيوت آبائهم؟ لا مفر سوى أن يتجه هؤلاء لتبوير وتجريف وبيع الأرض الزراعية التى باتت تمثل لهم مجرد أصل رأسمالى ضعيف العائد، لكنه متحقق القيمة بالفرق بين سعر الأرض كأرض زراعية وسعرها كأرض بناء.
ألم يرصد المسئولون أن القرى المصرية برغم تشديد القوانين والرقابة تتوسع توسعا صامتا بالقضم البطىء للأرض الزراعية؟ حتى صارت الكثير من القرى وكأنها مدن صغيرة غير منتجة ومكتظة بالسكان.
• • •
الجهود الكبيرة للدولة فى عهد سيادة الرئيس السيسى زادت مساحة الأراضى المنزرعة فى مصر بنسبة 9%، لتصل إلى 9.7 مليون فدان فى عام 2021، مقارنة بـ 8.9 مليون فدان فى عام 2014 وتم الاهتمام بالمشاريع القومية لقطاع الزراعة، مثل مشروع الدلتا الجديدة على مساحة 2 مليون فدان فى الساحل الشمالى الغربى، ومشروع تنمية سيناء على مساحة 500 ألف فدان، ومشروعات استصلاح 1.5 مليون فدان فى الصعيد، ومشروعات تنمية توشكى وجنوب الوادى الجديد وشرق العوينات.
واستنادا إلى ما سبق فإن البعض قد يدفع بأن هناك مشروعات كبرى تقوم بها الدولة اليوم لاستصلاح الأراضى الصحراوية يمكن أن تعوض الفاقد فى أراضى الدلتا، إلا أننا عندئذ سنذكره بأن تكلفة استصلاح الفدان الواحد من الأرض فى الصحراء تتطلب قرابة الثلاثمائة ألف جنيه، فضلا عن تكلفة الإمداد بالمياه والمخصبات والأسمدة والجهد الهائل المطلوب من العمالة والآلات والمعدات.
من جهة أخرى، فإن إنتاجية الفدان الواحد من الأراضى الزراعية الخصبة فى وادى النيل والدلتا تعادل من أربعة إلى خمسة أضعاف الإنتاجية فى الأراضى المستصلحة حديثا، فهل من المنطقى أن نشهد فقدان أجود الأراضى وأخصبها وهى بين أيدينا، ونتجه إلى الصحارى القاحلة التى تتطلب مليارات الجنيهات من الاستثمارات وتحتاج إلى عشرات السنين من الجهد الشاق حتى تصل لنفس مستوى إنتاجية الأرض الزراعية التاريخية لمصر فى وادى النيل والدلتا؟.
• • •
المسألة بالمنطق الاقتصادى هى تكلفة الفرصة البديلة والتى ستحسم الأمر لصالح الحفاظ والزود عن الأرض الزراعية، والمنطق العمرانى الخروج من الوادى والدلتا وغزو الصحراء وهزيمتها بإقامة مدن وتجمعات سكانية وحضرية جديدة وحديثة، وبالمنطق السكانى تخفيف الكثافة السكانية المتضخمة فى الوادى والدلتا وإعادة توزيع السكان فى أنحاء مصر الشاسعة.
والتساؤل الذى يطرح نفسه هو أليست الأرض الزراعية المصرية فى وادى النيل والدلتا أرضا مقدسة؟ أليست هذه الأرض الزراعية تنتج الخير والغذاء لمصر منذ سبعة آلاف سنة؟ هل ضاقت الدنيا بمصر وانعدمت الأراضى حتى نضحى بقرابة 400 فدان من أجود وأخصب الأراضى لإقامة مدينة جديدة فى قلب الدلتا؟ فى حين كان من الممكن والمنطقى إقامتها فى أى مكان آخر خارج الوادى والدلتا، وجذب السكان إليها.
أليست أراضى مصر الشاسعة أولى بالاستثمارات التى ستنفق وتؤدى فى النهاية إلى تبوير تلك الأراضى الزراعية؟ أليست الصحراء المصرية الشاسعة أولى بهذا الجيل من السكان والشباب والأسر، بدلا من استمرارهم وأولادهم إلى الأبد متمركزين داخل الوادى والدلتا دون إنتاج حقيقى؟ أليس من الأفضل أن تقام مثل هذه المدن الجديدة بجوار المناطق الصناعية الجديدة أو مناطق الاستصلاح الزراعى الجديدة أو ما بين الوادى والصحارى ليكون التعمير حقيقيا وفعالا؟
الأرض عرض كما يقول أجدادنا، ومثلما يعد نهر النيل أحد أعظم النعم التى حبا الله سبحانه وتعالى بها مصر، فإن الأرض الزراعية السوداء الخصبة لوادى النيل والدلتا ترقى إلى ما لنهر النيل من الأهمية، بل والقداسة، إلى الحد الذى يتوجب على كل مصرى الزود عنها والحفاظ عليها كجزء من تاريخه وحاضره ومستقبله.