لم يكن أحد يتصور أن يتغير وجه العالم كله من جراء فيروس (أو أى مرض فى الحقيقة) مثلما حدث مع الكورونا، لم تسلم دولة واحده منه، هذا الفيروس أظهر أن العالم ضعيف أما الطبيعة وتستوى فى ذلك الدول المتقدمة والنامية، وأظهر أيضا هذا الفيروس الأنانية المفرطة بين الدول، على العموم هذا موضوع كبير سيتناوله علماء الاجتماع وعلم النفس والسياسة والطب والتاريخ بالدراسة والتحليل لسنوات عديدة قادمة. فى هذا المقال سنتكلم عن تأثير واحد فقط من التأثيرات الكثيرة لهذا الفيروس وهو تأثيره على العملية التعليمية فى الجامعات وأعتقد أن هذا التأثير ليس مؤقتا بل إنه سيستمر وسيتغير وجه العملية التعليمية للأبد، فماذا حدث؟
عندما أغلقت المدارس والجامعات والشركات إلخ أبوابها فى مارس 2020 بتأثير الجائحة لم يكن أمام القائمين على العملية التعليمية إلا خيارين: إما إيقاف الدراسة بالكامل أو الدراسة عن بعد وكان الخيار الثانى هو الأفضل حتى لا تضيع السنة الدراسية على الطلاب لكنه كان الأصعب أيضا لأنك تريد تحويل العملية التعليمية كلها وفى غضون أيام من قاعات الدرس إلى شاشات الكمبيوتر وتدريب المدرسين والطلاب على تلك الطريقة.
بعد أكثر من سنة من التعليم عن بعد فى بلدان كثيرة من العالم بدأ خبراء التعليم فى استخراج الدروس المستفادة، أولها أن التعليم عن بعد يقل تأثيره وكفاءته فى الأعمار الصغيرة مثل الحضانة والابتدائى حيث الاحتكاك المباشر أكثر فعالية فى تشكيل شخصية الطفل، لكننا فى هذا المقال نركز على التعليم الجامعى ونأتى إلى الدرس الثانى وهو أن التدريس عن بعد أكثر إرهاقا للأستاذ لأن الطلبة يكونون أقل تفاعلا ومن ثم يتكلم الأستاذ بكم أكثر من المحاضرات فى القاعات، ثالثا موضوع الامتحانات أصبح أكثر صعوبة فى منع الغش، رابعا سيبدأ الأهالى والطلاب خاصة فى الدول الغنية المطالبة بتقليل مصروفات الدراسة لأن التعليم عن بعد فى رأيهم ليس كالتعليم وجها لوجه وهذا سيدفع الكثير من الجامعات إلى البحث عن طرق لتحسين وتطوير التعليم عن بعد حتى تظل المصروفات مرتفعة. للتعليم عن بعد عدة مزايا وهى التى ستساهم فى تغيير شكل التعليم الجامعى.
أولا سيكون بمقدور الجامعات قبول عدد أكبر من الطالب إذ لن تكون الجامعة محدودة بحجم قاعات المحاضرات، هذا سيؤدى إلى زيادة مكاسب الجامعة، ثانيا سيكون الأمر مفيدا للطلبة أيضا إذ يمكنهم حضور محاضرات فى أرقى جامعات العالم دون الحاجة للسفر والبحث عن سكن إلخ، ثالثا سيكون بمقدور الجامعات الاستعانة بأفضل أساتذة العالم وهم فى بلدانهم دون الحاجة للسفر وإن كانت هناك بعض العقبات المتعلقة بقوانين كل دولة فيما يتعلق بالضرائب وما شابه.
هذه الأمور الثلاث ستجعل التنافس بين الجامعات لاجتذاب الطلبة على أشده.
من المتوقع أن يتطور التعليم عن بعد فى السنوات القادمة مع تطور وسائل الاتصال فى العالم أجمع لكن ستظل بعض الدول الفقيرة بعيدة عن ذلك نظرا لضعف بنيتها التحتية وبالتالى سرعات الإنترنت عندها لن تكون بالكفاءة المطلوبة لتجربة تعليمية ثرية، من الوسائل التى ستساعد على تحسين التعليم عن بعد هى القدرة على التفاعل باستخدام تقنيات مثل النظارات ثلاثية الأبعاد التى تستخدم فى ألعاب الكمبيوتر حاليا لكن من السهل توظيفها فى التدريس. أيضا طريقة التدريس نفسها ستتطور لتناسب التعليم عن بعد ولتساعد على التفاعل لأن الأستاذ عندما يكون وراء شاشة الكمبيوتر وليس فى قاعة المحاضرات فهو يفقد التأثير عن طريق الحركة والجسم (body language) ويفقد معرفة استيعاب الطلاب عن طريق النظر فى وجوههم (eye contact) وهذا يستلزم تقنيات مختلفة فى التدريس، وطبعا ستتغير طبيعة الامتحانات حتى تلائم تقنيات التعليم عن بعد وتقلل من حالات الغش.
من تجربة مؤلف هذه السطور أن أصعب أنواع التعليم وأقلها كفاءة هو ما يسمى التعليم الهجين (hybrid teaching) والذى يكون فيه بعض الطلاب فى قاعة المحاضرات والبعض الآخر يتابع عن بعد الصعوبة فى هذا النوع أن الأستاذ يجب أن يتابع الأسئلة التى تأتى من الطلاب فى القاعة وفى نفس الوقت تكون عينه على شاشة الكمبيوتر ليتابع أسئلة الطلاب الذين يتابعون عن بعد، أيضا يحتاج الأمر إلى تجهيز أكبر من كاميرات وما شابه إذا أراد الأستاذ استخدام السبورة مثلا وفى نفس الوقت يعرض رسوما على شاشة كبيرة.
ماذا يحمل لنا مستقبل الجامعات بعد الجائحة؟ أعتقد أننا سنشهد تغيرا واضحا فى الجامعات فى الدول المتقدمة أولا ثم ينتشر التغيير فى البقية.