ليس من مشهد أفدح على تدويل الثورة والحرب فى سوريا من سلسلة الاتصالات السياسية والدبلوماسية والعسكرية المحمومة التى اثارتها ضربتان جويتان للطيران الحربى الإسرائيلى على مواقع عسكرية ومخازن أسلحة ومركز ابحاث فى دمشق وجوارها. وسوف تتوج تلك الاتصالات بلقاء أمريكى ــ روسى رفيع المستوى يمكن التكهن بأن نتائجه لن تتضح بسرعة.
تمت الضربتان على مقربة من القصر الجمهورى بمعرفة ودعم من الإدارة الأمريكية كما أكدت مصادر إسرائيلية ولم تنف واشنطن. بل سارع الرئيس اوباما إلى اعتبار هذا الاعتداء السافر على السيادة السورية بمثابة حق لإسرائيل فى الدفاع عن النفس، إسرائيل الذى تحتل جزءا حيويا من الأراضى السورية بعد أن أعلنت ضمّه بالضد من قرارات الامم المتحدة.
يجدر لفت النظر إلى رخاوة ردتى فعل الحليفين الروسى والصينى. بدلا من أن تؤجل بكين زيارة نتنياهو الرسمية لها، ولو لساعات أو أيام على سبيل الاحتجاج، كان نتنياهو هو من أخّر زيارته للعاصمة الصينية بضع ساعات. وغادر تل ابيب على قرارين: بدء التفاوض على التعويض على ضحايا الباخرة التركية «مافى مرمرة» وقرار مفاجئ بتجميد الاستيطان فى الضفة الغربية. أما الحليف الروسى، فناشد سوريا «ضبط النفس» على لسان وزير الخارجية لافروف، قبل أن يتحدث عن «ضرورة احترام السيادة السورية». أما طهران فتراجعت سريعا عن دعوة أحد مسئوليها العسكريين المقاومة اللبنانية إلى الرد، فتولى أمين المجلس الأعلى للأمن القومى تذكير إسرائيل بأنها سوف «تندم» على عدوانها، وصولا إلى تحذير وزير الخارجية الإيرانى من أن الفراغ فى السلطة السورية سوف يهدد أمن جوار سوريا.
•••
يمكن أن نتجاوز ردود فعل المكابرة والتبرير السورية: من سقوط قذيفة أو قذيفتين عبر الحدود على الجولان المحتل، إلى اكتفاء وزير الإعلام بالترنيمة المعتادة عن «الاحتفاظ بحق الرد» ما أثار «الوزير المعارض» على حيدر الذى طالب بالرد العسكرى قبل ان يزايد عليه رئيس الوزراء فأعلن ان «لا مجال للتخاذل والتقصير والنأى بالنفس». فهمنا الاشارة إلى النأى بالنفس. ولكن من يقصد رئيس وزراء سوريا بالمتخاذل والمقصّر فى الردّ سابقا على الاعتداءات الاسرائيلية؟ وكان هذا قبل أن يدلو خبراء عسكريون بدلائهم بين من يبرّر عدم الرد على اعتبار ان اسرائيل فى حالة تأهب قصوى، ومن يدعو إلى رد عسكرى سورى «يغيّر قواعد اللعبة»، تاركا سؤالا رهيبا معلقا: ماذا يصير بـ«قواعد اللعبة» بعد الرد على الرد؟
لعل الاقرب إلى مجريات الامور الفعلية هو أن نأخذ فى الحسبان الخبر الذى نقلته صحفية «يديعوت احرونوت» من أن تل ابيب بعثت برسالة إلى دمشق عبر واشنطن وموسكو تعلن فيها عدم النية فى التدخل فى الحرب الأهلية. وقد نقلت صحيفة «الرأى» الكويتية أن الرئاسة السورية ردّت على تلك الرسالة بالقول اذا كررت إسرائيل عدوانها فسيكون ذلك بمثابة اعلان حرب. وكما يجرى فى مثل تلك الحالات، ما لنا وكلام الصحف، ما علينا إلا أن نراقب، لا الحرب ولا التهديد بها، بل ما اذا كانت اسرائيل سوف تكتشف أو لا تكتشف المزيد من الصواريخ الإيرانية أو غير الإيرانية المنقولة إلى حزب الله بعد الآن.
•••
يبقى السؤال: لماذا تدخلت إسرائيل عسكريا؟ ولماذا تتدخل الآن؟
لعل السؤال الحيوى هنا هو: ما الحكمة ــ التكتيكية أو الاستراتيجية ــ من نقل سلاح صاروخى متطور إلى حزب الله فى معمان الحرب السورية؟ والمعلوم أنه سوف تكتشفه اجهزة الرصد الأمريكية والإسرائيلية مثلما كشفت قافلة السلاح التى سبقته ما استدعى ضربة مماثلة لأشهر خلت؟ فهل فى الأمر اكثر من تذكير طهران بأنها طرف إقليمى وازن فى الأزمة السورية، وفى الحل، وبأنها مرجع آخر من مراجع حزب الله يجدر التعاطى معه. بل تزداد اهمية هذا التذكير بحضور ايران بما هى قوة إقليمية بعد أن عقد الرئيس اوباما المصالحة بين الجارين التركى والإسرائيلى.
مهما يكن، هدفت الضربة الإسرائيلية لثلاثة اغراض. الأول وضع «خط احمر» جديد هو الكيماوى السورى وسلاح حزب الله الصاروخى بعد أن اعترف نتنياهو بأن النووى الايرانى لم يصل بعد إلى «الخط الاحمر» الذى رسمه فى خطابه الشهير أمام الأمم المتحدة. والغرض الثانى هو الاستطلاع بالنيران للدفاعات الجوية السورية يخدم عدة اغراض من بينها احتمال التصعيد الامرىكى ــ الاطلسى باتجاه فرض منطقة حظر جوية على سوريا. والغرض الثالث هو حجز مقعد لإسرائيل على طاولة المفاوضات حول مصير سوريا.
أما القطاع الواسع من الشعب السورى الذى لا يزال يطمح بتغيير النظام وبالحرية والوحدة والكرامة فما عليه إلا أن يدفن ضحايا القصف والمجازر ــ من يستطيع إليهم وصول تحت انقاض وطن يدمى ويتعثّر ــ بانتظار كبار الأرض والأقل كبرا، ممن سوف يتقاسمون تقرير مصيره والكل باسم «الشعب السورى يقرر مصيره».