تلقيت اتصالاً هاتفياً من المهندس إبراهيم محلب الثلاثاء الماضى تعقيبا على مقالى حول تهجير العائلات القبطية فى الصعيد، أكد خلاله التزام الدولة بتطبيق القانون وإعادة المهجرين إلى منازلهم، وهو ما حدث بالفعل إذ عادت العائلات المهجرة إلى منازلها خلال الأيام التالية، وانتهت بذلك الأزمة فى محافظتى المنيا وبنى سويف. ومع ذلك فإن رئيس الوزراء، حينما دعانى للقائه بعد ذلك بيومين، لم يكن مكتفيا بتجاوز هذه الأزمة، بل أعرب عن اهتمامه بضرورة التطرق إلى حلول مؤسسية تمنع تكرار هذه الظاهرة القبيحة قبل وقوعها، وتتعامل مع جذور المشكلة وليس مع آثارها.
وهذا هو بيت القصيد. لقد أحسنت الحكومة بأن تمسكت برجوع المهجرين إلى منازلهم وعدم الالتفات إلى التحفظات والتحذيرات المعتادة لأن ما كان على المحك هو مبدأ المواطنة وما إذا كانت الجماعات الدينية المتشددة ستفرض سطوتها مرة أخرى على البسطاء من الأقباط فى الصعيد. ولكن من جهة أخرى فليس من المعقول أن تتحول كل مشادة أو خلاف أو تصرف صبيانى إلى قنبلة موقوتة، تهدد بفتنة طائفية، وبحرق المنازل، وبوقوع الضحايا والمصابين، ولا يمكن الاعتماد على تدخل قوات الأمن لإعادة العائلات إلى منازلها فى كل مرة ينشب فيها خلاف طائفى. لابد من إيجاد آليات مختلفة لتوقى المشكلات قبل وقوعها والتعامل مع تداعياتها مبكرا.
وإذا كانت الدولة تتبنى تجديد الخطاب الدينى وسيلة للحد من الغلو والتشدد، فإن هذا ملف طويل المدى ولن يسهم مباشرة فى نزع فتيلة الاحتقان الطائفى، كما أنه يتجاهل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية التى تدفع إلى اتساع الهوة بين المسلمين، والمسيحيين.
لذلك فلدى أربعة مقترحات عملية ومحددة، قد لا يمثل كل منها وحده حلاً جذرياً للمشكلة الطائفية، ولكنها مجتمعة قد تؤسس لتعامل مختلف من جانب الدولة والمجتمع معها، وتضع اللبنة الأولى التى يمكن البناء عليها:
الاقتراح الأول هو البدء فورا فى إعداد مشروع قانون يجرم التهجير القسرى ويجعل كل من يتسبب فيه أو يساهم فى وقوعه شريكا فى الجريمة. فبرغم أن الدستور قد نص على أن التهجير القسرى جريمة لا تسقط عقوبتها بالتقادم، فإن نصوص الدستور ذات الطابع الجنائى غير قابلة للتطبيق بذاتها، بل يلزم أن تعبر عنها مواد فى القانون الجنائى تحدد أركان الجريمة ودرجاتها وترتيب العقوبات المترتبة عليها، وإلا بقيت هذه النصوص مجرد توجيهات دون أنياب أو أثر إلزامى.
الاقتراح الثانى، والأوسع نطاقا، هو البدء فى إعداد مشروع قانون لمناهضة التمييز فى المجتمع بشكل عام، التمييز على أساس الدين أو النوع أو الموطن الجغرافى أو الطبقة الاجتماعية أو غير ذلك. تهجير الأقباط فى الصعيد ليس الشكل الوحيد للتفرقة فى المجتمع، بل التمييز واقع حقيقى وسلوك مقبول اجتماعيا بشكل علنى أحيانا ومستتر فى معظم الأحوال، فى الحقوق والواجبات، وفى فرص العمل وظروفه، وفى حرية العقيدة وممارسة شعائرها.
كل هذا ليس فقط منتشرا فى المجتمع، بل الأخطر أنه مقبول باعتباره وضعا طبيعيا وكأن نصوص الدستور بشأن المساواة وعدم التمييز نوع من المثالية التى يمكن تجاهلها. لذلك يجب ترجمة هذه المبادئ إلى تشريع لمناهضة التمييز وتجريم ممارساته. ولدى جمعيات مناهضة التمييز والأحزاب السياسية مقترحات محددة فى هذا الشأن يمكن للدولة أن تستعين بها.
صحيح أن إصدار قانون جديد ليس بالضرورة الوسيلة الأفضل لإحداث التغيير الاجتماعى، إلا أنه بالتأكيد يساهم فى رسم خطوط واضحة بين المشروع والممنوع، ويمنح الباحثين عن العدالة والمساواة الأداة التى يحاربون بها التفرقة فى مختلف المجالات.
أما الاقتراح الثالث فهو إعادة تفعيل المجلس القومى للعدالة والمساواة. وهذه ليست فكرة جديدة، بل كان د. عصام شرف قد أصدر قرارا بتشكيل المجلس عام ٢٠١١، لكى يعمل على التكامل بين جهود الدولة والمجتمع فى مكافحة التمييز، وإنشاء أليات للإنذار والتدخل المبكر فى مختلف أنحاء الجمهورية، والدفع بالسياسات والتشريعات اللازمة لتحقيق ذلك. ولكن لم يجر تفعيل المجلس ولا منحه الصلاحيات والموارد التى تمكنه من تأدية وظيفته. ثم عاد د. هشام قنديل وشكل المجلس مرة أخرى فى مطلع عام ٢٠١٣، ولكن فى هذه المرة سيطر عليه التيار الإخوانى وبدا واضحا أن المقصود منه هو كسب نقاط إعلامية دون اكتراث حقيقى بدوره ودون منحه الصلاحيات والأدوات المطلوبة. ثم جرى طرح الموضوع مرة ثالثة وقت حكومة د. حازم الببلاوى ولكن تعثر الملف ولم ير النور قبل أن تتغير الحكومة. مع ذلك، وبرغم التعثر المتكرر، فإن الحاجة تظل ماسة لتشكيل هذا المجلس ومنحه الاستقلال والموارد المطلوبة والابتعاد به عن الاستقطاب السياسى ليكون عين المجتمع على احترام المساواة، والية إنذار مبكر للمشاكل قبل وقوعها، ومساحة للتفاوض، التى تسمح بتجاوز الخلافات والتعامل مع تداعياتها بحكمة وسرعة وفى إطار القانون.
وأخيرا فإن الخطوة الرابعة هى الخروج من حالة التوجس من الجمعيات الأهلية والتضييق عليها فى النشاط والتمويل لأن هذه المنظمات المنتشرة فى كل أنحاء مصر، وبخاصة فى الصعيد والمناطق المحرومة، تقوم بدور شديد الأهمية فى حشد الموارد المحدودة وفى إنشاء قنوات للتعامل بين الناس وتقديم الخدمات البسيطة إليهم، بما يتجاوز الحدود الطائفية ويضيق من الفجوة بين المواطنين ويجمعهم حول مبادرات تخدم المجتمع.
ملاحظة أخيرة: كل قضية، مهما بلغت أهميتها، لا تحظى إلا بأيام معدودة من الاهتمام الإعلامى وأحيانا الرسمى، ثم تنقضى وتتجه الأنظار إلى موضوع الساعة التالى. ولا نريد لهذا أن يكون الحال مع الشأن الطائفى، تعود العائلات المهجرة إلى منازلها ويزول الاهتمام بالموضوع إلى أن تدركنا الأزمة التالية. حديث رئيس الوزراء حول البحث عن آليات مؤسسية ومستمرة بداية طيبة، وهناك اقتراحات محددة طرحتها جهات مختلفة يمكن البدء منها، وعلينا أن نشارك جميعا فى متابعتها وتنفيذها قبل أن تداهمنا أزمة جديدة فنكون مرة أخرى غير مستعدين.