قد تكون مصر بإذن الله في طريقها إلى استقرار سياسي تضمنه مؤسسات ديمقراطية تعتمد على توافق شعبي، ولكن هل لنا أن نأمل في أن يقوم الاقتصاد المصري من عثرته التي طالت؟ وهل هناك أمل في أن نرى مصر تعود إلى ازدهار اقتصادي تتوزع عوائده بعدالة على الجميع؟
إن المتفحص للوضع الحالي للاقتصاد المصري قد يصيبه اليأس والاحباط، فجميع المؤشرات المتعارف عليها ترسم صورة قاتمة سواء كان ذلك في معدل النمو أو سوء توزيع الدخل القومي أو عجز الموازنة أو تدهور ميزان المدفوعات الخارجية أو ارتفاع البطالة أو انخفاض معدلات الاستثمار. فإذا اضفنا إلى ذلك الشلل شبه التام في قدرة البيروقراطية المصرية، بجميع مستوياتها على التصرف بحرية في اتخاذ القرارات المطلوبة لتسيير عجلة الاقتصاد، فإن الأمر يبدو ميؤوسا منه وبرغم ذلك فأنا متفائل.
متفائل في أننا قادرون خلال فترة قصيرة نسبيا قد لا تتعدى سنتين في أن ندفع الاقتصاد إلى مرحلة انطلاق سريع يمكنها خلال عقد من الزمان أن تلحق بركب الدول التي يشار إليها الآن كدول واعدة والسبب في هذا التفاؤل يرجع إلى أن عناصر الاقتصاد الحقيقي من حيث قدراتنا الانتاجية سواء من أدوات الانتاج والعناصر البشرية بل والمرافق العامة، وحجم السوق، كلها قادرة على الوصول إلى معدلات انتاج تفوق كثيرا ما نحن عليه الآن، مما يبشر بإمكانية الرجوع إلى معدلات نمو متفوقة إذا وفرنا المناخ المناسب والسياسات السليمة وهو أمر ليس بالمستحيل.
●●●
إن مشاكل الاقتصاد معروفة للمتخصصين كما أن حلولها أيضا معروفة على الأقل في خطوطها الرئيسية وهى جميعا حلول قد تكون مؤلمة على المدى القصير لكنها طبقا لتجارب الدول التي مرت بظروف مماثلة تؤدى إلى نمو متسارع وتحسن في جميع المؤشرات المهمة التي تمس حياة المواطنين جميعا. والسؤال الأهم الذى يجب أن نبحث عن اجابه له قبل أن نبدأ في معالجة مشاكل الاقتصاد هو كيف يمكن أن نقنع الشعب بأن يتقبل الاجراءات الضرورية لمعالجة تلك المشاكل؟ في رأيي أن هناك مبدأين اساسيين يجب أن تلتزم بهما الحكومة في خطابها مع الشعب. أولهما المصارحة التامة بالوضع الاقتصادي الحالي وما قد يؤدى إليه استمرار السياسات الحالية من تدهور بل وانهيار في مرافق الدولة وما يتبع ذلك بالضرورة من زعزعة للسلام الاجتماعي. والمبدأ الثاني هو أن تكلفة تطبيق السياسات الجديدة يجب أن يتحمل عبئها الطبقات القادرة وأن الطبقات الفقيرة لا يمكن أن نطلب منها أن تشارك في ذلك.
بدون المصارحة واقناع الجمهور بخطورة الوضع لا يمكن تصور أن تقبل الجماهير تحمل أي تضحيات أو اعباء. وفى الوقت نفسه لا نستطيع أن نطلب من الفقراء الذين تزداد معاناتهم يوما بعد يوم أن يتحملوا المزيد حتى وإن كان ذلك في مصلحتهم على المدى الطويل.
●●●
إن التوصل إلى سياسات وخطوات تنفيذية محددة لتطبيقها يجب أن يخضع إلى حوار وطني واسع يسمح لجميع القوى الوطنية بالأدلاء بدلوها وبالرغم من أن التوصل إلى توافق مجتمعي كامل على تلك الخطوات سيكون صعبا بل مستحيلا في أغلب الأمر، إلا إنه ضروري لتمهيد الطريق للبدء في تلك الاجراءات واعطائها غطاء شرعيا يكفل قبولها.
وقبل أن نقدم اطارا عاما لعملية اصلاح الاقتصاد المصري يجب أن نؤكد أن الأمر يتطلب توافر ثلاثة عناصر قد لا تكون مرتبطة بطريقة مباشرة بالأساسيات الاقتصادية. العنصر الأول هو ضرورة التوصل إلى توافق سياسي ومجتمعي تقوده قيادة سياسية تحظى باحترام وثقة أغلبية الشعب، والثاني أن يكون الوضع الأمني المنفلت قد تمت السيطرة عليه ولسنا ندعى أن توافق هذين المطلبين بالأمر السهل لكننا يجب أن نعترف أنه بديونهما فإن أي تصور لتطور حقيقي للاقتصاد يعتبر دربا من الخيال، أما العنصر الثالث فهو ضرورة تحرير البيروقراطية المصرية من الخوف وتأسيس وتحصين قدرتها على اتخاذ القرار بعدما فقدت تلك القدرة خلال أكثر من سنتين من الملاحقة غير المبررة في أغلب الأحيان ولن يكون ذلك إلا بإصدار قانون يقصر اتخاذ اجراءات قانونية ضد موظفي الدولة على حالات الرشوة أو التربح فقط.
إن مواجهة الوضع غير المقبول للاقتصاد المصري يحتاج إلى معالجة سريعة وشجاعة سواء على المدى القصير أو على المديين المتوسط والطويل وفى رأينا اننا يجب في الوقت الحالي التركيز على تدارك الأمور الملحة وأن نعمل على ثلاثة محاور يمكن إن خلصت النواب أن تأتى بنتائج سريعة وهى وقف النزيف المستمر في ميزان المدفوعات والتعامل مع مشكلة البطالة واستقطاب استثمارات جديدة.
●●●
بالنسبة للمحور الأول لا مناص من العمل بأقصى سرعة مع مشكلة الدعم وخاصة دعم الطاقة الذى نتوقع أن يبلغ في العام الحالي أكثر من 150 مليار جنيه تذهب منها 75٪ إلى الوسطاء والطبقات القادرة وهناك حلول متعددة قدمت من المختصين في هذا المجال منها رفع أسعار الطاقة للصناعات كثيفة الاستهلاك ورفع أسعار السولار والبنزين والبوتاجاز وزيادة الاعتماد على الغاز وليس مجال هذه الورقة المختصرة أن تتعامل مع هذا الموضوع باستفاضة، ولكننا نقترح أن يكون هناك حوار واسع عن الموضوع خلال فترة لا تزيد على شهر تنتهى بتقديم خطة متكاملة تأخذ في الاعتبار عدم تأثر الطبقات الفقيرة عن طريق الدعم النقدي المباشر. إن توفير 70٪ من دعم الطاقة يمكن أن يوفر 100 مليار جنيه سنويا يمكن أن توجه إلى استثمارات توفر فرص عمل اضافية لـ 300 ألف شخص على الأقل سنة بعد اخرى وكل تأخر في تنفيذ ذلك يعتبر اخلالا بالصالح العام ولا يجب أن نقبل به.
المحور الثاني هو ضرورة بدء التعامل لتخفيف حدة تزايد البطالة بوضع خطة قومية لتشغيل مالا يقل عن 150 الف شخص في مشروعات بنية اساسية قد تتضمن انشاء الطرق واصلاح بنية العشوائيات واصلاح وانشاء المدارس والمستشفيات وذلك في حدود 50 جنيها يمكن أن تمول من الوفرات الناشئة عن ترشيد الدعم وذلك بشرط أن يتم تنفيذ تلك المشروعات عن طريق المحافظات وتحت اشراف مالي وفنى من مؤسسات الدولة وأن تكون مشروعات سريعة التنفيذ لا تحتاج إلى دراسات جديدة وأن يكون احتياجها لعملات اجنبية في أقل الحدود.
المحور الثالث هو القيام بحملة عامة لجذب الاستثمارات سواء المحلية أو الاجنبية ويتطلب ذلك تأكيد الدولة على التزامها بجميع تعاقداتها السابقة مع المستثمرين مالم يثبت وجود فساد حقيقي يشوبها والاسراع بالتصالح في القضايا المطروحة حاليا واصدار قانون يوفر الأمان للعاملين بالدولة في تعاملهم مع المستثمرين ويمكنهم اتخاذ القرار دون خوف. ومن ناحية أخرى فإن الارتفاع الشديد في اسعار الفائدة يعتبر عاملا مثبطا للاستثمار ويجب أن يبدأ البنك المركزي في تخفيضه خاصة في ضوء الانخفاض في معدلات التضخم الذى بدأ يظهر مؤخرا.
●●●
يهمنا أن نوضح الأهمية القصوى لاجتذاب رؤوس الاموال العربية والاجنبية كجزء من خطة طويلة المدى لتنشيط الاقتصاد وان مصر تحتاج إلى أن يبلغ معدل الاستثمار السنوي 30٪ من الدخل القومي على الأقل لنستطيع أن نوفر فرص العمل لشبابها الذين يدخلون سوق العمل سنويا ولهؤلاء المتعطلين عن العمل حاليا، هذا بينما لا يزيد معدل الادخار على 13٪ حاليا وبالتالي فإن الفارق بين هذين الرقمين والبالغ 17٪ لابد أن يأتي من مصادر خارجية تكون في أغلبها استثمارات أجنبية ونحن في هذا لا نختلف عن دول أخرى نامية اعتمدت ومازالت تعتمد على الاستثمارات الأجنبية كمصدر أساسي للنمو نذكر منها الهند والصين وكوريا وتركيا وماليزيا.
بقى أن نوضح أننا نؤمن بأننا يجب أن نلجأ على المدى القصير إلى الاستدانة من الخارج لتلافى الوصول إلى نقطة لا يمكن عندها تمويل احتياجاتنا الاستراتيجية المستوردة خاصة وان ديون مصر الخارجية لا تزال في نطاق النسب الآمنة نحو 25٪ من الدخل القومي، الا أن خطتنا يجب أن تشمل الاستغناء عن الاستدانة من الخارج خلال فترة سنتين أو ثلاث وفى الوقت نفسه فإننا نؤيد ما تم من اصدار سندات خزانة بالدولار اشتركت فيها البنوك المصرية ومولت من الودائع الدولارية لديها.
إن مصر بلد لديه امكانيات مادية وبشرية وبنية تحتية تمكنها بإذن الله أن تتحول خلال سنوات قليلة إلى مصاف الدول سريعة النمو وان نصل بمعدل زيادة الدخل القومي إلى 8٪ أو أكثر وان توفر لأبنائها فرص العمل المجزية.
رئيس الجمعية المصرية للأوراق المالية