حتى يعود الإسلام إلى المسلمين ليس غريبا عنهم، فلابد أن يتعرف الإسلام اليوم على المسلمين مرة أخرى! يبدو لى أن الإسلام الآن لا يعرف المسلمين المعاصرين، فالإسلام الحالى يخاطب مسلمين العصور الماضية لا مسلمى هذا العصر، مسلمين لا يعرفهم جيدا، وبالتالى فهو غريب عنهم وهم غرباء عنه! من هم مسلمو اليوم وكيف يمكن للدين أن يعود إليهم؟
***
المسلمون المعاصرون هم فرق وطوائف ونحل و«حالات» عدة، ولا طائل أبدا الآن من محاولة إعادتهم إلى فرقة واحدة وإخافة باقى الفرق الأخرى أنها فى النار! الحقيقة أن كل فرقة تعتقد بشكل أو بآخر أنها الفرقة الناجية، ومن هنا فهى تتشبث أكثر بفريقها حتى تدخل الجنة، إذن وحتى يتم حل تلك المعضلة فلابد للإسلام أن يخاطب كل المسلمين أينما كانوا وكيفما كانوا، والخطوة الأولى هنا أن يعيد التعرف عليهم مرة أخرى!
بالإضافة إلى الفرق والمذاهب المتفرقة التى نعرفها عن الإسلام، فهناك أيضا «حالات» عدة تتقاطع بين هذه المذاهب وتعبر عن الطريقة التى يتفاعل بها المسلمون المعاصرون مع الدين الإسلامى:
المسلمون المجتهدون: هؤلاء مسلمون يجتهدون على قدر طاقتهم البشرية، يحاولون تأدية الفروض والالتزام بتعاليم الدين مهما بدت صعبة أو مرهقة، ولكنهم دائما يشعرون بالذنب بسبب أن المتحدثين باسم الدين يوخزون ضميرهم دائما ويشعرونهم بالنقصان ويحملونهم ما ليس بطاقتهم! هم دائما يستمعون لخطب الشيوخ عن تقصيرهم فى حق دينهم مما يتسبب فى غضب الله عليهم، لا يعرفون تحديدا ما المطلوب منهم، ولكن لديهم دائما هذا الشعور بالتقصير وبالذنب تجاه الدين، فلا يمارسون الدين بثقة ولكنهم دائما فى أوضاع دفاعية لإدراك الدين الذى يأبى أن يدركهم!
المسلمون المغلبون: هناك أيضا المسلمون الذين غلبتهم مآسى الحياة، الفقر والمرض والجهل وتقلبات الدهر وظلم البشر والنظام الاجتماعى والسياسى، هؤلاء يحاولون طوال الوقت أن يجدوا فى الإسلام ملجأ بلا طائل لأن كهنة الإسلام حالوا بينهم وبين الدين، لأن الأخيرين ببساطة كانوا ولا يزالوا جزءا من تراتبية علاقات القوة فى المجتمع التى خلقت كل هذا القهر والظلم والقمع!
مسلمو الطقوس: هناك أيضا الكثير من المسلمين يتمسكون بهويتهم الدينية ولكنهم لا يفهمون من الدين سوى طقوسه ومظاهره لا معاملاته وفلسفته ومقاصده، هؤلاء تحول الدين بالنسبة لهم إلى وسيلة لكسب الحسنات بمجرد التمتمة ببعض الكلمات حتى دون وعى أو تدبر! أفهمهم بعض «المشايخ» أن الإسلام هو عبارة عن «آلة حاسبة» لتجميع أكبر قدر من الحسنات المضاعفة يوميا، فتحول الدين إلى مجموعة طقوس، إلى عملية حسابية جامدة للعد والضرب والجمع والطرح، دون فهم أو وعى أو تحقيق للحد الأدنى من هدف الرسالة! هؤلاء لا يهمهم أن يعطلوا مصالح غيرهم، أو يعتدوا على حقوق الآخرين، فهم فى الطريق إلى المنزل سيرددون الأدعية التى ستضاعف حسناتهم ويصومون فى أيام معينة لتغفر ذنوبهم هكذا ببساطة!
الإسلام كثقافة: نستطيع أيضا أن نتعرف اليوم على المسلمين المتصالحين مع الدين باعتباره حضارة أو ثقافة، فهم يتعايشون معه باعتباره وسيلة للحياة وللتفاعل مع محيطهم الاجتماعى والتعرف على ماضيهم وماضى أجدادهم دون أن يلزموا أنفسهم بالضرورة بدعوته أو بمجموعة محرماته، هؤلاء ليسوا بالضرورة ضد الدين، لكنهم فقط يتعاملون مع الأديان من منطلق مختلف، فالدين بالنسبة لهم هو محاكاة ثقافية وليس بالضرورة مجموعة عبادات وشعائر.
المسلمون المرتبكون: نستطيع أن نجد اليوم الكثير من المسلمين المرتبكين، الحائرين، يحاولون طرح الأسئلة الصعبة ولكنهم لا يجدون من الإجابات سوى ما تكرر عبر قرون مضت وهزم منطقه، فترداد حيرتهم وارتباكهم أكثر باحثين على إجابات بلا جدوى، ليس لأن الإجابات ليست موجودة، ولكن لأنها إجابات ساذجة، تلفيقية، هدفها «إقامة الحجة» لا الإقناع بالدليل والبرهان! هؤلاء المرتبكون لا يجدون اهتماما كبيرا من الإسلام اليوم، فهم إما منسيون أو مهمشون لأنه لا يوجد أحد يبذل جهدا حقيقا للتعامل مع ارتباكهم لأن علماء الدين يتعاملون مع ارتباكات هؤلاء باعتبارها «شبهات» يجب الرد عليها لا أسئلة منطقية يجب التحاور معها!
المتشككون فى الإسلام: نجد اليوم أيضا المسلمين الذين تملك الشك من عقلهم وروحهم وهم يجدون التناقضات تلو الأخرى، يحاولون الفهم، التحليل، يريدون برهة من الزمن ليعيدوا الحسابات، يريدون أمانا اجتماعيا وسياسيا حتى يفكروا بصوت عال مسموع، حتى يفضفضون، حتى يعبرون عما يجول بخاطرهم بلاخوف ولا فزع، لكن هيهات، فالمجتمع المتظاهر بالقداسة يدخلهم فى ألعاب حلزونية غير محايدة، فهو لا يحاورهم ولكنه يوعظهم، والفرق بين «الحوار» و«الوعظ» كبير للغاية! هو يعاملهم إما بمنطق «الوباء» الذى يجب «محاربته» أو» المؤامرة» التى يجب التصدى لها!
المسلمون التاركون: كما أن هناك المسلمين الذين تركوا الدين لأسباب عدة، إما افتتانا بحضارات وثقافات وديانات أخرى، أو شعورا بعدم الاقتناع العقلى والمنطقى بالرسالة كما أنزلت على الرسول أو بالأديان عموما، أو ألما وغضبا من مساحات الظلم على المستويات الاجتماعية والسياسية المختلفة والتى يلعب فيها الدين «ككائن اجتماعى» دورا رئيسا للإحكام والسيطرة والظلم والبطش وعدم التكافؤ، أو لأنهم هم أنفسهم وقعوا ضحايا لهذه الممارسات غير العادلة والتى مورست باسم الدين أو بالتعاون معه، أو نتيجة للعجز عن ممارسة شعائر الدين التى غلبت طاقتهم البشرية فى ظل ضغط المادة واختلاف مصادر العلم والمعرفة وتطور طبيعة المنطق ومعطيات الحياة المعاصرة! وهؤلاء أيضا لا يتحدث الدين «معهم» ولكنه يتحدث «عنهم» باعتبارهم شرا أصاب الإسلام والمسلمين وينتظر بعض المسلمين اليوم ولى الأمر الشرعى ليطبق عليهم حد الردة!
المسلمون المباهون: هؤلاء الذين يعتبرون الدين أحد مظاهر الوجاهة الاجتماعية والتدرج فى سلم الطبقية! هؤلاء وبغض النظر عن درجة التزامهم الدينى «بالعبادات أو المعاملات»، فالدين بالنسبة لهم أداة لادعاء التفوق الاجتماعى فى الدنيا والآخرة، انظر إلى كل هؤلاء الذى يحرصون على تسجيل أنفسهم باعتبارهم من «الأشراف»، الذين يحصلون على شهادات النسب إلى الرسول! انظر إلى سرادق عزاء بعضهم وأنت تعرفهم! سرادق العزاء هى للوجاهة والتربيطات العائلية والقبلية والسياسية، وتأكيد على المكانة! يهرول الكثيرون على عزاء المشاهير «الذين لم تنسحب الشهرة منهم قبل موتهم»، إلى هؤلاء الذين يتمتعون بمكانة اجتماعية أو سياسية، فنجد قرآنا بصوت مرتفع فى ميكروفونات تسمع القاصى والدانى أن هناك تظاهرة لتأكيد الحسب والنسب والموقع الاجتماعى على جثة المتوفى! طوابير طويلة من المعزين ومستقبلى العزاء وتمتة بكلمات غير مفهومة مع آلاف الأحضان والتظاهر بالحزن! مكان العزاء هام لأنه يعكس مكانتك! اسم الشيخ الذى سيقرأ القرآن هام وسعره أهم وتأكيدا على غلاوة المتوفى ومكانتك أنت بالطبع!
***
ماهو المطلوب من الإسلام المعاصر إذن لإنهاء حالة الاغتراب عن المسلمين؟
أن يخاطب المسلم المعاصر: لم يعد من الممكن أن نتحدث عن «تجديد الخطاب الإسلامى»، دون الحديث عن عملية شاملة لإعادة تنقيح الأحاديث النبوية، إعادة التأكد من «الأحاديث القدسية»، إعادة فهم شامل للرسالة كما أنزلت على الرسول فى ضوء التطورات المعاصرة. كل هذا لن يحدث إلا بإعادة فهم الإسلام فى ضوء حقيقة المسلمين وتنوعاتهم اليوم، لن يحدث إلا بفهم جديد للرسالة دون الاقتصار على تفاسير وشرح وفتاوى المذاهب الأربعة والتى عاش علماؤها فى عصور مختلفة عن عصرنا الحالى! هل يمكن للمسلمين أن يتبنوا مذهبا خامسا أو سادسا أو سابعا؟ ما المانع؟ الحقيقة إن لم يحدث خلال العقود القليلة القادمة ثورة حقيقية من علماء المسلمين تتبنى أطروحات ومذاهب جديدة فستزداد غربة الإسلام عنا وغربته عنا!
على الإسلام ثانيا فى هذه الثورة أن يقر بالتعددية، ليس فقط تعددية البشر «وهو بالمناسبة مبدأ ثابت فى الرسالة وفى صريح نصوص القرآن الكريم»، ولكن أن يقر أيضا بتعددية المسلمين أنفسهم على مستويين:
المستوى الأول هو المستوى «المذهبى»، وبالتالى فبدلا من أن يخاطب الدين مذهبا واحدا فقط باعتباره المذهب الناجى، فعليه مخاطبة كل المسلمين وبالتالى يرتقى الإسلام على الخلافات المذهبية - الطائفية، ويعيد تشكيل رسالة عالمية شاملة تخاطب الجميع فى المقاصد والعبادات والمعاملات وترتقى بها على الخلافات السياسية - الطائفية! هذه الخطوة أيضا حتمية وستنهى غربة الإسلام عن المسلمين، لأنها تعنى أن الإسلام الآن يعى أن أصحاب المذاهب والطوائف المختلفة لم يختاروا أن يفعلوا ذلك نكاية فى هذا المذهب أو ذاك، ولكن نتيجة لتطورات تاريخية وسياسية وجدوا أنفسهم نتاجا لها ولا ذنب لهم فيها!
والمستوى الثانى هو مستوى «الحالات» والتى تعنى أن يتعامل مع الحالات المختلفة للمسلمين على النحو المذكور أعلاه، يتوقف عن توبيخ المسلمين المجتهدين آخذا فى الاعتبار ضغوط الحياة المعاصرة، يحتضن المسلمين الذين يعانون من ضغوط الحياة ويعمل على الارتقاء بهم تعليميا واجتماعيا من خلال الانحياز للأقل حظا فى الحياة والتوقف عن مساندة ذوى الحظوة على حساب الآخرين، أن يقبل بالشك والارتباك والإلحاد وأن يعطى لهؤلاء الأمان والوقت اللازم لإعادة فهم الرسالة والتعرف عليها مع التسليم بحرية اختيارهم فى النهاية.
***
يحتاج الإسلام ثالثا إلى ثورة على مستوى الانحيازات، أى باختصار أن يقرر الانحياز إلى الشعب، الحقيقة أن الإسلام أمامه خياران فى العصر الحديث، إما أن يكون إسلام السلطان وهى النسخة التى نعرفها عن الإسلام منذ أحداث الفتنة الكبرى، أو أن يكون إسلام الناس العاديين! لن تنهى غربة الإسلام قبل أن ينحاز للبشر وقضاياهم ضد القمع والظلم، ليس مطلوبا أن يكون الإسلام «حزبى» يروج لهذه الجماعة أو تلك، ولكن المطلوب منه أن يكون «إنسانى» منحازا للقضايا الإنسانية باعتبار أن الإنسان هو خليفة الله ومحور تعمير هذه الأرض.
أقضى الآن بعض الوقت مع حديث الرسول محمد «صلى الله عليه وسلم»: «ولد الإسلام غريبا ويعود غريبا» فأفهمه بشكل مختلف، ولد الإسلام غريبا لأنه كان مختلفا وجديدا وثوريا وسابقا لمعطيات العصر ولم يكن المؤمنون به سوى قلة محدودة تسكن شبه الجزيرة، ولكنه يعود غريبا لأنه لم يعد مختلفا ولا متطورا ولا معاصرا، ومن هنا فالقضاء على غربته يكون بتكييفه تاريخيا وبشريا ومجتمعيا وهيكليا! المسلمون ليسوا مذنبين لأنهم ابتعدوا عن الدين، ولكن الدين هو المطالب بأن يقترب من المسلمين ويتفهمهم وينهى هو غربتهم عنه، ووقتها لن يكون غريبا ولن نكون غرباء!