(1)
نحن فى أيام الاعداد للدستور الجديد فى مصر، الذى ننشد ان يكون تتويجا لجهود ثورة 25 يناير، ونحن ننشد ان تكون هذه الثورة ثورة نهوض كامل للجماعة الوطنية فى مصر، من حيث السعى لبناء سياسات وطنية مستقلة تصدر عن الصالح العام للجماعة الوطنية، بالنهوض بالاقتصاد نحو الاكتفاء بقدر الامكان من الاحتياجات الضرورية، اكتفاء يصون القرار السياسى المصرى ويحفظه فى اطار الصالح العام للجماعة ويجعله عصيا على الضغوط الخارجية، وكذلك بالتوزيع العادل للدخل بقدر الإمكان، بما يحفظ التوازن الاجتماعى بين فئات الشعب المصرى وطبقاته.
ويظل أهم ما أفصحت عنه الثورة بحق هو ان نظام الحكم وتنظيم المجتمع هما الحلقة الأساسية لانفتاح الطريق أمام كل السياسات الرشيدة المطلوبة والتى تحتاج إليها مصر. لأن الاستبداد كان هو ما أوقعنا فى جميع ما تعانى منه مصر من انهيارات سياسية واقتصادية. فالديمقراطية هى الحلقة الأساسية للخروج من نظم الاستبداد وهو الحصانة المستقبلة ضد عودته، والدستور بعد نجاح الثورة فى إزاحة النظام القديم والانتهاء الديمقراطى للمرحلة الانتقالية، الدستور بعد ذلك وفى ظل هذا المناخ السياسى سيعتبر إن شاء الله الوثيقة الأساسية لنظام يصون مصر من السلطة الفردية ويكفل توزيع السلطة بواسطة هيئات وتنظيمات سياسية رسمية وشعبية وحزبية ونقابية.
وفى سياق الحديث عن الديمقراطية والدستور ونتائج ثورة 25 يناير إلى الآن، فإن من أهم ما أفصح عنه مسار الأحداث الجارية خلال الأشهر العشرين الماضية، ان التيار الإسلامى، لا أقول انه سيطر على الوضع فهذا غير صحيح، ولكن أقول انه قد صار أحد أهم القوى الأساسية فى الحراك الديمقراطى الشعبى المصرى الحالى، بما يستحيل معه غض النظر عنه فى حساب القوى المؤثرة التى تتشارك فى السلطة وجودا وتداولا، قد يكون تنقصه الخبرة السياسية فيرتكب من الأخطاء ما نراه ونتابعه ونعترض عليه ونحاول تصحيحه بالجهود الجمعية الشعبية، ولكن نقص الخبرة السياسية بسبب الغياب السياسى طويل الأمد للتيارات كلها قد صار آفة عمت كل تلك التيارات، ولعلها لدى بعض التيار الأساسى من نخب العلمانيين أكثر حدة. كما لوحظ هذا النقص فى الخبرة السياسية لدى قادة الجيش المشاركين فى ثورة 25 يوليو إبان المرحلة الانتقالية كلها.
وبنظرة تاريخية يظهر انه على مدى العقود الماضية التى يتصل بها الواقع السياسى المرحلى المعيش، فإن التيار الإسلامى والتنظيمات ذات المرجعية الإسلامية، قد صارت من أهم قوى المقاومة الوطنية فى عالمنا العربى، ان لم تكن أوسعها انتشارا الآن وأكثرها فاعلية. وان ما اضافته ثورة 25 يناير سنة 2011 هو ان هذه القوى والتيارات بسبب قدرتها التنظيمية واتصالاتها الشعبية العميقة والواسعة قد صارت هى المرشحة لأن تحمل شعار الديمقراطية وتمضى به لولا نقص الخبرة، لأنها لا تخشى الشعب ولأنها أكثر من يرتبط به ويتخلله، وهى ليست من «الخائفين من الديمقراطية»، وليست من هذه النخب المنعزلة عن الجماهير، والمثقفة التى تنظر إلى «الشعب» كمفهوم فكرى سياسى تتحدث عنه نظريا دون ان تتصل به ماديا وعضويا، وهى نخب تعمل عملا دائبا على ألا تجرى استفتاءات ولا انتخابات ولا تحريك جماهيرى منظم ومؤسس، وهى تتجاهل حقيقتين «علمانيتين» ليستا من العقائد، وهما أن الشعب حقيقة ملموسة وليس مجرد مفهوم ذهنى نظرى، وان الثقافة السائدة لديه هى الثقافة الإسلامية وهى بالضرورة ما يشكل مرجعيته العامة فى النظر إلى الصواب والخطأ والشرعية.
أردت بهذه المقدمة السريعة ان أوضح السياق العام الذى يتعين ان ننظر من خلاله لأوضاع الدستور الجديد ومناقشة أحكامه والمسودات التى تطرح عنه. وأردت أن أوضح فى هذا السياق، ان النقد الذى قد يوجه إلى بعض أحكامه ونصوصه وخطط انشاء مؤسساته، لا يخل بحقيقة ان الجهد الذى يبذل فى وضعه من الجمعية التأسيسية الحالية هو جهد جد حميد وهو جهد يستوجب التقدير والاحترام فى توجيهاته الديمقراطية والمعارف التى يستند إليها والطموحات التى يرنو إليها، وأن الجمعية التأسيسية التى تقوم بهذا الأمر وتسهر عليه، هى جمعية ذات شرعية سياسية ومؤسسية كاملة حسبما أرى وطبقا للوثائق الدستورية التى كان معمولا بها فى المرحلة الانتقالية والتى تستند إلى ثورة شعبية وإلى استفتاء شعبى صحيح ونزيه وإلى مؤسسات انتخبت واختبرت شعبيا بنزاهة وتوازن وتعبير شعبى صادق فيما أراده. وان النقد لبعض الاحكام لا يخل بصواب ما هو متضمن فى غيرها من نصوص، ولا يخل بجدارة اتخاذه مشروعا جادا طيبا صالحا تماما للنقاش ولاتخاذه أساسا للتنظيم السياسى لمصر مستقبلا واستفتاء الشعب عليه بعد إصلاح ما اعترى بعض أحكامه من عوار.
ونبدئ فى إثبات ما نرى من ملاحظات:
(2)
أول ما أعرض له من ملاحظات هو، يتعلق ببناء السلطة التشريعية فى «مسودة الدستور» المطروحة، وهى تشكل أحكام الفصل الأول من باب السلطات العامة فى الدستور. وقد اشتمل هذا الفصل على ثلاثة فروع، أولها يتعلق بالأحكام العامة المشتركة، وثانيها يتعلق بمجلس النواب وثالثها يتعلق بمجلس الشيوخ.
ان التصور العام الذى رسم به مشروع الدستور السلطة التشريعية، انما يصدر عن ان هذه السلطة تتمثل فى «البرلمان»، وان «البرلمان» يتكون من غرفتين هما مجلس النواب ومجلس الشيوخ، وان البرلمان بهذا التكوين هو من «يمارس السلطة التشريعية على الوجه المبين فى الدستور (المادة 80)، أى أنه يمارس هذه السلطة بغرفتيه، وجاءت المواد من 80 من 112 بالأحكام العامة المشتركة المتعلقة بالمجلسين بحسبانهما معا من تتشكل منهما السلطة التشريعية وتمارس اختصاص التشريع القانونى للدولة وللمجتمع.
وقد بلغ التوحد فى الأحكام بين المجلسين ان المادة 95 تقرر «يدعو رئيس الجمهورية البرلمان للانعقاد لدور الانعقاد العادى السنوى...»، أى ان المجلسين يجتمعان بدعوة واحدة من فرط التشابه والتوحد بينهما فى الاختصاص التشريعى، وهما لا يجتمعان اجتماعا مشتركا بهذه الدعوة فلكل منهما كيانه الذاتى المؤسسى، ولكن العبارة توحى بأنه رغم استقلال كل منهما التنظيمى (المواد 96، 98، 101)، فهما صنوان من الأداء التشريعى الوظيفى لهما، وهما يتبعان ذات الإجراءات التنظيمية التى تحكم عملهما ونشاطهما وتشكلاتهما الداخلية حسبما يظهر من مجمل المواد المنظمة لهذه الأمور.
ويؤكد هذا التوحد فى الإدارة للوظيفة التشريعية ان المادة 102 تنص «يبلغ البرلمان رئيس الجمهورية بكل مشروع أقره، فإذا رده الرئيس وأقره كل مجلس بأغلبية أعضائه وجب صدوره».
ويبقى السؤال عما يكون عليه الحال إذا اختلف المجلسان حول تشريع معين، لقد تعرضت لذلك المادة 108 فقضت بأنه إذا قام خلاف تشريعى بين مجلسى البرلمان تشكل لجنة من عشرين عضوا «يختار نصفهم كل مجلس...» وذلك لاقتراح ما يزيل الخلاف ثم تعرض هذه الاقتراحات على كل من المجلسين، فإذا لم يوافق احدهما عليها، يجتمع المجلسان برئاسة رئيس الشيوخ «وبحضور الأغلبية المطلقة لمجموع أعضاء المجلسين» ويصدر القرار بأغلبية الحضور، ويكون التصويت بغير مناقشة. وان صحة الاجتماع المشترك «بأغلبية المجموع» يعنى انه يمكن ان تكون الغلبة العددية لأعضاء مجلس الشيوخ ومع ذلك يصح الاجتماع ويصدر القانون. والعكس صحيح. ووجه الملاحظة أن مجلس الشيوخ لا يتكون من المصريين عامة، بل من فئة محدودة منهم، كما يستجىء البيان بعد ذلك.
هناك طبعا خلافات بين المجلسين بالنسبة للمسئولية الوزارية التى خص بها مشروع الدستور مجلس النواب، وبالنسبة لاقتراحات الضرائب وزيادتها التى استبعدت من الاختصاص التشريعى لمجلس الشيوخ، وغير ذلك. ولكن المهم أن سلطة التشريع بعامة شائعة بين المجلسين على سبيل التساوى، وفى حالة الخلاف فإنه يمكن تصور أغلبية لأعضاء الشيوخ إذا كانوا هم الأكثرية بين من يحضرون الاجتماع المشترك. فلم يشترط المشروع الحضور بنسبة العدد الكلى لكل من المجلسين.
والحاصل ان المجلسين غير متساويين فى العدد، فإن أقل عدد لمجلس النواب حسبما جاء بالمشروع هو350 عضوا (م 113)، وأقل عدد مجلس الشيوخ هو 150 عضوا (مادة 130). ويمكن طبعا وهذا حاصل من قبل فى مجلس الشعب، ان نقسم الدوائر إلى أكثر من هذا العدد المنصوص عليه، ولكن المقارنة بين العددين لكل من المجلسين تعطى مؤشرا على الحجم النسبى لكل منهما، بما يشير إلى ان النسبة العددية تكون دائرة بين اثنين ونصف لمجلس النواب وواحد فقط بالنسبة لمجلس الشيوخ. بمعنى أنه عند تساوى الوظيفة التشريعية بينهما بالنسبة لما يصدر من قوانين، يكون صوت عضو مجلس الشيوخ مساويا لصوت اثنين ونصف من مجلس النواب. وقد نصت المادة 105 من مشروع الدستور على ان طرح موضوع للنقاش عن سياسة الحكومة يحتاج إلى اقتراح مقدم من عشرين عضوا من مجلس النواب أو إلى اقتراح من عشرة أعضاء فقط من مجلس الشيوخ، وهذا يكشف عن الأوزان النسبية لأصوات كل من أعضاء المجلسين.
ويثور السؤال، من أين جاءت هذه النظرة التى تفرق بين مواطن ومواطن فى ذات الأداء الوظيفى لكل منهما وفى هيئات المفروض انها تمثل المواطنين جميعا، وفى قلب الهيئة الأساسية الممثلة للشعب والمعبرة عن أصل الأداء الديمقراطى والتى تصدر التشريعات له، والتى يعتبر ركنها الركين هو المبدأ الديمقراطى الشعبى العتيد «الصوت الواحد للفرد الواحد» من المواطنين، بما يفيد وجوب المساواة المطلقة بين المواطنين فى هذا الأداء.
من أين جاءت هذه النظرة؟
(3)
يرد الخلل فى شروط الترشح لعضوية كل من المجلسين حسبما وردت فى هذا المشروع. فإن المادة 113 تضع من شروط الترشيح لعضوية مجلس النواب فضلا عن المصرية والتمتع بالحقوق المدنية والسياسية، ان يكون «حاصلا على شهادة اتمام التعليم الأساسى على الأقل». وهذا الحكم لم يكن واردا فى دستور 1971 ولم نجده فى دستور 1964 ولا فى دستور 1956 ولا فى دستور 1923. لم يضع أى من هذه الدساتير التى عرفتها مصر شرطا يحرم مصريا من حق الترشيح لعضوية المجلس النيابى، وما كان يرد فى القوانين الاستبدادية سرعان ما كان يزول. ان من لم يحصل على التعليم الأساسى هى فئة من المصريين نحن مسئولون عما أصابها من ظلم ومن هضم للحقوق، لأننا كمجتمع لم نوفر لها امكانات الحد الأدنى من المعيشة الذى يمكن من إرسال الصبى إلى التعليم الأساسى. وقد نصت المادة 50 من ذات مشروع الدستور على ان التعليم الأساسى هو تعليم الزامى، والالزام يقع على عاتق الدولة وتوفير امكانات التأهل للالزام يقع على عاتق المجتمع، ومن جهة أخرى فما هو التعليم الأساسى، انه مستوى تحدده وزارة التربية والتعليم بقرار منها وتغير به ما يعتبر متصفا بهذا الوصف أو غير متصف به، أى ان وزارة التعليم هى من يحدد درجته ومستواه وما يعتبر حصولا له. فهو مركز قانونى تستبد وزارة التعليم بتقريره بما لا يملك غيرها تحديده. فهو ليس تعريفا يرد فى الدستور، وليس واقعة مادية يستطيع أى فرد أو هيئة أو محكمة أن تستبنها بما تملك من وسائل للمعرفة. وهذا وضع يخل بمبدأ المساواة بين المواطنين. ويكفى فى هذا الشأن شروط معرفة القراءة والكتابة مما يمكن لأى شخص ان يتبين مدى توافره ولا يستبد بتحديده هيئة حكومية معينة.
كان هذا عن مجلس النواب، أما مجلس الشيوخ فقد قضت المادة 131 من مشروع الدستور ان يكون «حاصلا على إحدى شهادات التعليم العالى على الأقل». وهؤلاء نسبة جد محدودة من الشعب المصرى، قدر مشروع الدستور لا ان تستبد بأحد المجلسين التشريعيين فقط، ولكن ان تكون شريكا مساويا لكل الشعب المصرى الممثل فى مجلس النواب من حيث سلطة التشريع، ويكون لها ما يشبه حق الفيتو على أى تشريع يضعه مجلس النواب لوجوب موافقة مجلس الشيوخ عليه، وهو صنو لمجلس النواب، فلا يكتمل أى عمل تشريعى إلا بموافقة حملة الشهادات العليا عليه من خلال ممثليهم فى هذا المجلس. وبهذا تصير نخبة ثقافية جد محدودة هى المسيطرة على الوضع التشريعى فى مصر بما لم يسبق له مثيل فى كل ما عرفنا من دساتير عرفت بأنها صدرت فى عهود توصف بالاستبداد السياسى. والسؤال الاستهجانى الذى يثور، أهذا هو نتاج ثورة 25 يناير «الديمقراطى»؟.
ان جماعة من المثقفين العلمانيين كانوا اجتمعوا فى الشهور الأولى من الثورة ووضعوا برنامجا لنظام الحكم وكان من احكامه ان تحسب الأصوات الانتخابية للناخبين بقدر مستواهم التعليمى، وكان ذلك منهم حرصا على ضمان سيطرة النخبة الثقافية على مقاليد السياسات المصرية من دون السواد الأعظم من الشعب المصرى الذى يتحدثون عنه دون ان يعرفوه ويتكلمون باسمه مع شدة الحرص على استبعاده، وهى نظرة لم يجهر بها اتجاه سياسى مصرى فيما خلا ما كان من حزب الأمة القديم الذى ظهر فى العشر الأولى من القرن العشرين لسنوات معدودة معبرا عن مثقفى أبناء الطبقة الاقطاعية المصرى من كبار ملاك الأراضى الزراعة وقتها، وورثه على استحياء غير جهير حزب الأحرار الدستوريين بعد ثورة 1919.
ويزيد فى هذا الالتباس، ان مجلس الشيوخ بمشروع الدستور المطروح أكثر استقرارا من مجلس النواب، فمدته ست سنوات بينما مدة مجلس النواب خمس وهو يتجدد تجددا نصفيا كل ثلاث سنوات، وهو غير قابل للحل (المواد 114 عن مجلس النواب، 132 عن مجلس الشيوخ). وأكثر من ذلك فإن ربع أعضائه يعينهم رئيس الجمهورية من بين من تولوا مناصب كبار رجال الدولة المحددة بالمادة 130 من مشروع الدستور وهم السابقون من رؤساء الوزارة والوزراء ورؤساء المجالس التشريعية وأعضائها وأساتذة بجامعات ووالمستشارين والسفراء واللواءات ومديرى العموم والرؤساء الدينيين وكبار العلماء.
ان تشكيل هذا المجلس ووظيفته هو تصور منقول عن دستور 1923 بالنسبة لمجلس الشيوخ، وكان ذكر الدكتور عبدالحميد بدوى بلجنة إعداده دستور 1923 انه مجلس وضع «ليلطف» من اتجاهات مجلس النواب، وان دستور 1923 وضعته لجنة تمثل مؤيدى الملك ومؤيدى حزب الأحرار الدستوريين ورجاله المنحدرين من حزب الأمة السابق الاشارة إليه، وهى قوى كانت معادية لثورة 1919 تريد ان تجردها من ثوريتها، وكانت هذه القوى هى من استبد بالحكم بعد ذلك فلم يتح للوفد ان يحكم إلا نحو سبع سنوات من ثلاثين سنة هى عمر هذا الدستور، وحكم الملك والأحرار ومن والاهم باقى المدد. فهل هذا الامر يتكرر امامنا الآن.
ووجه العجب، ان هندسة رسم مجلس الشيوخ فى دستور 1923 هى هندسة مفهومة فى ظروف لجنة ينشتها أعداء الثورة الشعبية فيحيطوها بمؤسسات «تلطف» من ثوريتها أو تجهض هذه الثورية، ولكن ان يجرى ذلك من هيئة تأسيسية اختيرت بالانتخابات من أعضاء مجلسين تشريعيين منتخبين فى انتخابات حرة ونزيهة ومعبرة عن الشعب المصرى وروحه الثورية فى 25 يناير سنة 2011 وذلك طبقا لمبادئ دستورية انتقالية استفتى عليها الشعب استفتاء حرا ونزيها، وكانت نسبة 77.2٪ منه مع هذه التصورات للخطوات الثورية الديمقراطية التى يوضع بها الدستور، الغريب انه بعد نجاح تخطيط سياسى يصدر عن إرادة 77.2٪ من الشعب المستفتى، ان يرسم مشروع الدستور مؤسساته وفقا لإرادة نسبة 22.8٪ ويعبر عن إرادة الأقلية ويضع لها هذا المركز السامى، مركز ان يكون لها ولما تمثله من نخب حق الفيتو على إرادة جموع الشعب المصرى وان يصدر ذلك من الجمعية التأسيسية التى تعتبر ابنة شرعية لأغلبية 77.2٪ من الشعب المصرى.
والغريب أيضا ان دستور 1971 الذى يقال عنه انه دستور استبدادى وما سبقه من دساتير ثورة 23 يوليو 1952، يصون للعمال والفلاحين من المصريين حقا دستوريا يكفل لهم الحرص على ان يكون لهم ما لا يقل عن 50٪ من الهيئات المنتخبة ذات الإرادة السياسية التى تصدر التشريعات. هذه الدساتير التى كانت تصون ولو نظريا هذا المركز لجماهير شعبية طال حرمانها من المشاركة فى التقرير للسياسات، يأتى مشروع دستور ثورة 25 يناير لا ليضمن لها فى الواقع تحقيق هذا المركز العادل لها، ولكنه يأتى ليمحقه محقا ويلغيه إلغاء ويستبدل به حقا للسيطرة والهيمنة لنخبة محدودة ومعزولة فيمنحها ما سبق ان استبد به كبار ملاك الأراضى الزراعية فى مصر منذ 1923 حتى 1952.
إننا إذا أردنا ان نستبقى مجلسا تشريعيا ثانيا يحل محل مجلس الشورى وتكون له وظيفة ايجابية تراعى التاريخ الدستورى المصرى الذى طمح سنين طويلة ان يضمن حقوق الجماهير الشعبية الواسعة والاقل تمتعا بمزايا المجتمع الاجتماعية والثقافية، وهم العمال والفلاحون بحسبانهم القاعدة الأساسية للشعب المصرى ومن يعود إلى سواعدهم فضل كل إنتاج حقيقى للاقتصاد المصرى فى الزراعة والصناعة فضلا عن المهنيين المصريين العاملين بخبراتهم المهنية، إذا أردنا استبقاء المجلس التشريعى الثانى بوظيفة ايجابية حقيقية، فعلينا ان نجعله لا ينحصر فى نخب ذوى التعليم العالى ولكن ان يكون ممثلا للاتحادات والنقابات الخاصة بالمهنيين والصناعيين والعمال والزراعيين وغيرهم، وذلك بالضبط هو ما أشير إليه فى المادة 209 من مشروع الدستور متعلقا «بالمجلسين الاقتصادى والاجتماعى»، فيكون هذا المجلس لا مجلسا استشاريا فحسب حسبما ورد بالمشروع، ولكنه يكون هو المجلس التشريعى الثانى باختصصات الواردة بذات المادة 209 المذكور، أى تعرض على مشروعات القوانين الخاصة «بصنع السياسات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية».
نقطة أخيرة تتعلق بصياغة المادة 130 الخاصة بمجلس الشيوخ وهى نقطة شكلية، فإن النص أورد ان يشكل المجلس بعدد لا يقل عن 150 عضوا يكون ربعهم بالتعيين بقرار من رئيس الجمهورية من الفئات المحددة بالنص. وان حسن الصياغة كان يستوجب ان يكون الحد الأدنى المذكور رقما يقبل القسمة على أربعة ليكون ربعه عددا صحيحا لا يشمل «كسرا» مستحيلا.
(4)
ثانى ملاحظة أراها مهمة تتعلق بوضع رئيس الجمهورية، وهى تشمل عدة نقاط، أولا ما يلاحظ من ان المادة 134 تذكر ان رئيس الجمهورية السلطة التنفيذية وانه «يراعى الحدود بين السلطات». ولهذا الحكم مثيل فى المادة 73 من دستور 1971، وهذه العبارة وضعت فى دستور 1971 لتمكنه من ألا يكون رئيسا للسلطة التنفيذية فقط ولكن ان يكون فوق السلطات بموجب انه يرعى الحدود بينها. وكان نص المادة 73 السابقة أكثر منطقية إذ لم يرد به ان رئيس الجمهورية هو رئيس السلطة التنفيذية، لأنه من التناقض ان يكون حكما بين سلطات وهو رئيس لإحداها، ولكن النص الحالى (134) الوارد بالمشروع الجديد، نص على رئاسته للسلطة التنفيذية وعلى كونه حكما بين السلطات بموجب رعايته الحدود بينها. وهذا تناقض ظاهر فى صياغة النص وفى الأداء الوظيفى للرئيس. كما ان هذه العبارة الخاصة برعايته الحدود بين السلطات هى أهم ما يصلح فى الصياغة لاسباغ السلطة المطلقة على الرئيس، لأنه بموجب رعاية الحدود يكون له ان ينشط من اجل التأثير على بعضها بدعوى رعاية الحدود. فهو حكم يبرر الطغيان لرئيس الجمهورية من بعد. وقد استفاد منه سابقا كل من أنور السادات وحسنى مبارك على التعاقب. ونحن الآن نكرر ذات الأمر ونعطيه ما يمكنه من سلوك طريق الاستبداد.
ويؤكد هذا المعنى ويكسبه خطورته الفعلية والتنظيمية، ان المادة 148 من المشروع تمكن رئيس الجمهورية من «ان يدعو الناخبين للاستفتاء فى المسائل المهمة التى تتصل بمصالح الدولة» ويقضى البند الثانى من ذات المادة «ونتيجة الاستفتاء ملزمة لجميع سلطات الدولة وللجميع فى كل الأحوال»، وهذا الحكم هو صنو للحكم الذى أورده دستور 1971 فى المادة 74 منه الذى يمنح رئيس الجمهورية ذات السلطة، وهى سلطة تتخطى المؤسسات الدستورية القائمة جميعا، وكانت المادة 73 تعطى المبرر المعنوى لرئيس الجمهورية ليتجاوز مؤسسات الدولة الأخرى ويلزمها برأيه بحجة انه يرعى الحدود بين السلطات، كما كانت المادة 74 تمكنه من الأداء الوظيفى والمؤسسى لهذه الفاعلية، والمادتان تمكنان رئيس الجمهورية من ان يعبر بالتعبير الدستورى «حكما بين السلطات»، وهى تمكنه من ان يصير بالتعبير السياسى مستبدا يستخدم السلطة الفردية له ويتجاوز بها كل مؤسسات الدولة. وذلك بموجب المادتين 134، 148 من المشروع الجديد.
فى الحلقة الثانية والأخيرة:
مسودة الدستور تعطى لمزدوجى الجنسية حق رئاسة الجمهورية وتحرمه على الوزراء