فى ظل الحالة الراهنة من القلق والإحباط، خاصة بين الشباب، بسبب ما يبدو أنه فشل السنوات الأربع الأخيرة فى تحقيق التغيير الذى كانوا يحلمون به، وأن الأمور تعود إلى سيرتها الأولى، وأن الثمن الذى دفعه المصريون جميعا بلا استثناء لم يجلب أية مكاسب، فإن هناك من الأسباب والمظاهر ما يدعو للتفاؤل والاقتناع بأن تضحيات السنوات الماضية لم تذهب هباء وأن التغيير لا يزال ممكنا، وإن كان بأدوات وفى ظروف مختلفة عما كان فى الحسبان.
التغيير ممكن لأن الشعب الذى اختار أن يصنع مصيره مرتين من قبل قادر على فرض إرادته مرة أخرى إذا ما اضطرته الظروف لذلك. واصطفاف الناس وراء الرئيس والحكومة من أجل الأمن والاستقرار والتنمية الاقتصادية لا يعنى أن الرغبة فى التغيير قد انطفأت بل لا تزال حاضرة وسوف تعاود تحريك الجماهير إذا ما تقاعست الدولة عن تحقيق وعودها. والتغيير ممكن لأن حالة الانقسام والاقتتال السائدة لا يمكن أن تستمر إلى الأبد، بل سيأتى اليوم الذى يبحث فيه المجتمع عن توافق جديد يستوعب كل من لم يرتكب عنفا ولا فسادا ويضع نهاية لمسلسل تصفية الحسابات بين قوى سياسية لا تريد لهذا البلد أن يهدأ. وأخيرا فإن التغيير ممكن لأن وقوف الشعب وراء الدولة ومؤسساتها فى المعركة ضد الإرهاب لا يعنى تنازله عن الدستور والقانون والحقوق والحريات مهما حاول الخبراء والمعلقون الفضائيون أن يدفعوه إلى ذلك.
هذه ليست مجرد أحلام أو تهيؤات، بل هناك بوادر على أن جانبا لا يستهان به من الشعب المصرى، خاصة فى صفوف الشباب، يبحث عن بديل ثالث بعيدا عن عودة الحكم الإخوانى والدولة الدينية من ناحية وبعيدا عن عودة ممارسات الظلم والفساد من ناحية أخرى. هذا التيار الواسع لا يرغب فى إسقاط النظام بل يحرص على استمراره إدراكا منه أن سقوط النظام هذه المرة يهدد كيان الدولة ويلقى بها فى نفق عميق ومظلم. ولكنه أيضا لا يقبل أن يتخذ من الحفاظ على هيبة الدولة ذريعة لعودة الأساليب والمصالح القديمة ولا لتأجيل المسار الديمقراطى أو تحقيق العدالة الاجتماعية. وهذا التيار يريد أمنا واستقرارا وتنمية اقتصادية، ولكنه يريد أيضا أن يعيش فى دولة تحترم القانون والمواطن وتعمل على حفظ كرامته وتوفير سبل المعيشة الكريمة له. وهذا التيار لا يعنيه كثيرا الصراع السياسى على المقاعد والمناصب ولا الظهور الإعلامى، بل يتمنى أن يتفق الساسة على طى صفحة الماضى فى إطار عادل لكى يمكن للبلد أن ينهض على أساس توافقى جديد. هذا التيار لا اسم له، ولا حزب، ولا قيادة، ولا صحيفة أو فضائية تعبر عنه، ولكنه تيار الأغلبية التى لم تتخل عن حلم التغيير، ولكن تدرك أيضا أن هذا التغيير لن يتحقق فى لحظة حاسمة بل قد يتطلب سنوات من العمل والبناء والتفاوض.
السؤال هو ما الذى يمكن أن يجعل هذا التيار يتبلور ويتحول إلى بديل حقيقى على الساحة وإلى قوة قادرة على مقاومة الاستقطاب فى المجتمع وعلى إجبار الدولة على التغيير؟ فى تقديرى أن الإجابة تكمن فى أن يدرك الشباب الذى قامت الثورة على أكتافه أنه لا يوجد تعارض بين التمسك بالمطالب والأهداف والمبادئ التى التفوا حولها طوال السنوات الماضية، وبين استخدام أدوات ووسائل مختلفة تمليها الظروف الراهنة، وأن يقبلوا خوض معركة طويلة تعتمد على بناء الأحزاب وعلى مخاطبة مشاكل الناس وعلى التفاعل مع الدولة ومحاورتها ومعارضتها، وأن يكونوا مستعدين لجنى ثمار هذا الجهد بعد فترة طويلة. هكذا نجحت دول أخرى فى أن تتبنى مسارا للديمقراطية والتنمية الاقتصادية بعد أن تراجعت الثورة وبعد أن عاد الحكم العسكرى إلى الصدارة وبعد أن بدا أن المصالح القديمة قد عادت للسيطرة وأن التضحيات قد ذهبت هباء. ولكن شبابها فى هذه اللحظة أدرك أن عليه توجيه طاقته إلى مسار مختلف للتغيير، متمسكا بذات الأهداف ولكن مستخدما وسائل وأساليب أخرى. هذا اختيار صعب ولا يقل شجاعة ولا إخلاصا عن النزول إلى الميادين ومواجهة الضرب والغاز لأنه اختيار يعبر عن صبر وحكمة واستعداد لخوض معركة طويلة الأمد.
هذا التيار هو الأمل الحقيقى فى التغيير وفى الخروج بالمجتمع من الحالة الراهنة من الانقسام والإحباط، ولكنه بحاجة إلى إعادة ترتيب للصفوف والأولويات وإلى التمسك بأهدافه النبيلة ولكن بوسائل تناسب الظرف الحالى وتستدعى الجماهير وتحصل على ثقتها مرة أخرى. أما الدولة فعليها أن تدرك أنه ليس كل من يدعو للتغيير أو العودة للمسار الديمقراطى أو التمسك بالدستور والقانون جزء من مؤامرة لإسقاط الدولة ودعم الإرهاب وتنفيذ أجندة اجنبية لإعادة الحكم الإخوانى. على الدولة أن تعى أن الراغبين فى التغيير الإيجابى والسلمى كثيرون وهم الأغلبية الحقيقية التى لا يمكن تحقيق الأمن والاستقرار بدون مشاركتها، وأن فتح المجال السياسى لها والتفاهم معها على خطوات العودة لمسار توافقى هو الضمان الوحيد لهيبة الدولة واستقرارها.