«وأنت تقاتل الوحوش، احذر أن تصير واحدًا منهم»
«عندما تحدق فى جهنم عميقًا، فإن جهنم تحدق فى عمقك»
عبارة لفريدريك نيتشه أستعيدها كلما داهمتنى وحشية هذا الزمان.
•••
هذه إذن «دابق»، الصحيفة الناطقة بلسان تنظيم «الدولة الإسلامية فى العراق والشام». أضغط على الرابط بشىء من التوجس، فأطالع أمامى العدد الخامس لهذه المطبوعة التى تظهر باللغتين الإنجليزية والألمانية منذ شهر يوليو 2014. على غلاف العدد، صورة جليلة للكعبة المشرفة بكسوتها السوداء الموشاة بخيوط الذهب. وباللونين نفسهما، كُتبت «دابق» بحروف لاتينية. الاسم مفعم بشحنة رمزية تعبوية، فهذا هو اسم المدينة المذكورة فى حديث شريف، حيث يُفترض أن يتقاتل المسلمون وأعداؤهم قبل قيام الساعة.
وفى داخل العدد، تتوالى الصور والإشارات: الكعبة المشرفة، مرة أخرى، فالمئذنة البيضاء، التى قيل إن عيسى المخلِّص عليه السلام سيهبط عندها فى آخر الزمان، تليها صورة مقربة للمصحف الشريف، ثم صورة لجهادى شاب، مفعم بحماسة المقبل على «الشهادة»، قد رفع سبابته بإشارة التوحيد وحمل بيرقا يشبه راية النبى صلى الله عليه وسلم، التى انتزعتها داعش لنفسها، رمزا مستلَبا آخرَ، إمعانا فى الإيحاء بصحة النسب. «خلافة على منهاج النبوة». هكذا يرددون. فغاية القصد والمراد هو الإيعاز بأن داعش باتت الممثل الشرعى والوحيد للإسلام والمسلمين حول العالم، والإيهام بأن ما ستعرضه المطبوعة على صفحاتها من ممارسات وحشية، مصحوبة بآيات كريمة وبأحاديث ثقات، إنما هو من صميم الدين الحنيف.
وتتوالى الصور والموضوعات، مرسلة رسالة ترويع للأغيار، ورسالة إغواء للجهاديين المحتملين عبر الحدود. ولا بأس من تحريف الكلم عن مواضعه، ورمى الخصوم بالكفر والردة، ومشاهد التفجير والقتل، تعقبها سجدات الشكر. فها هو موضوع الغلاف، تحت عنوان «سنبقى ونتوسع بإذن الله». يستعرض فيه المحرر «انتصارات الخلافة» فى ليبيا وفى اليمن وفى الجزائر وفى جزيرة العرب. أما فى سيناء، فلعل أطرف نكتة فيما ذكره المحرر وسط هذه الرطانة المفزعة هو قول ياقوت الحموى فى معجم البلدان بأن «سيناء اسم منطقة بالشام»، معززا ذلك بقول القرطبى قبل ألف عام بأن «طور سيناء يقع فى أرض الشام». بما يعنى أن سيناء شامية!!
لكن ما يثير الألم هو تلك الصور التى صاحبت المقالة، رغم عدم موثوقيتها ووضوح انتمائها لوسائل الحرب النفسية: أولها صورة لمدفع مصوب إلى ظهرى شخصين فى ثياب مدنية استعدادا لتصفيتهما، قيل إنهما «مجندان من جنود السيسى الكفرة»، على حد ما كتب، إلى جانب صورة لأسلحة مُستغنَمةٍ ممن قُتلوا من أبناء الجيش المصرى، وصور الاحتفال بالنصر على أسطح الدبابات فى سيناء، وإصبع الشهادة المرفوع إلى السماء، واليد الممسكة بالبيرق الداعشى الأسود، الذى لم يعد ــ بعد كل ما اقتُرف باسمه من جرائم ــ يمتُّ من قريب أو بعيد لراية التوحيد النبوية الرحيمة..
•••
وأقلب الصفحة فأطالع الباب الشهرى المعنون: «من كلمات الأعداء»، وفيه نقل لما جاء حول مائدة مستديرة بين خبراء «صليبيين» فى مركز العصف الفكرى الأمريكى «راند» حول استراتيجية الولايات المتحدة فى حربها ضد داعش. ويلاحَظ احتفاء المحرر بنبرة «اليأس» و«الحيرة» التى تلون تصريحات السادة الخبراء ومفادها «استحالة دحر الدولة الإسلامية»، فضلا عن إشكالية تعاون الولايات المتحدة مع شركائها الألداء.
أما المقالة الختامية، فهى بقلم الرهينة البريطانى المصور الصحفى جون كانتلى، وعنوانها: «لو كنت مكان رئيس الولايات المتحدة». لا يظهر كانتلى فى الصورة المصاحبة لهذا المقال مرتديا الزى البرتقالى المطابق لزى المساجين فى جوانتانامو، تلك الإشارة السيميائية المفعمة بالرغبة فى الثأر والاقتصاص، وهو الزى الذى ظهر به فى معظم مقاطع الفيديو التى صُورت له منذ خطفه. بل كان يرتدى قميصا أسود ــ كما الراية ربما ــ ونبتت له لحية إجبارية لطيفة يبدو أنه بات يعفيها دون الشارب. فهو بالطبع لا يريد أن يلقى مصير زميله جيمس فولى الذى نُشرت صور ذبحه فى العدد السابق.
فماذا كان عساه أن يصنع لو كان «فى مكان رئيس الولايات المتحدة»؟ كان سيغلق هاتفه المحمول، ويوصد المكتب البيضاوى، ويتفرغ للعب الجولف، لأن «التغلب على الدولة الإسلامية غير متاح»، على حد قوله. لكن أخطر ما يذكره كانتلى فى مقاله الدعائى هو كيفية استجابة عناصر جهادية غربية غير مرتبطة بالتنظيم لنداء شيخهم محمد العدنانى للجهاد داخل المجتمعات الغربية، مما أسفر عن الحوادث الإرهابية الأخيرة بكندا وأستراليا وفرنسا. وهو ما يفوق أقصى مخاوف أوباما التى عبر عنها حين أعلن عن استراتيجيته فى بداية سبتمبر، والمتمثلة فى أن يعود الجهاديون الغربيون لبلادهم فيقترفوا فيها أبشع الجرائم. فما حدث أن الجهاديين لم يعودوا إلى أوطانهم وتحركت بدلا منهم ذئابٌ وحيدة تعيش بين أدغال مجتمعات غربية علت فيها شكاوى مريرة من غياب العدالة الاجتماعية والتمييز ضد المسلمين، الذين بات حالهم أشبه بحال اليهود فى أوروبا عشية الحرب العالمية الثانية.
•••
هكذا فرغتُ من القراءة وشرعتُ فى التأمل...
كان لتنظيم القاعدة مجلته الناطقة بالإنجليزية هو الآخر، لكن «دابق» تتفوق عليها نوعيا وتكتيكيا. فصناعها قد قرأوا جيدا أعمال تسون تزو، وكلاوسڤيتز، وجُلّ نتاج الاستراتيجيين الغربيين فى علوم الحرب الإعلامية. كما أنهم عرفوا كيفية الاستفادة من إخفاقات الربيع العربى، وتوظيف النص المقدس لخدمة مصالحهم التوسعية فى المنطقة. وهم، فوق تلك الركيزة الفكرية الهجين، يبرعون فى استغلال الكلمة والكاميرا بهدف تغذية فزاعة الوحش الإسلاموى واستقطاب جماهير السُّنَّة الغاضبة حول العالم. لكن الأهم هو أنهم يجتهدون فى تقديم ذريعة للدولة اليهودية للتمسك أمام العالم بطابعها الدينى العنصرى المتطرف، وذريعة أقوى للولايات المتحدة الأمريكية للبقاء بقواتها وتحالفاتها فى المنطقة. وهو ما يطرح علامات استفهام حول هوية القائمين على شركة «الفرقان» ميديا ووكالة «الحياة» الإعلامية المسئولتيْن عن «الجهاد الإعلامى» للتنظيم. فوراءهما عقول وأنياب تعرف من أين تؤكل الكتف.