أخيرًا وبعد طول انتظار، بدأ أمس الأول قيد المرشحين للانتخابات البرلمانية التى تبدأ فى نهاية مارس وتنتهى فى الأسبوع الأول من مايو لتشكيل مجلس الأمة الجديد، والذى يعتبره الكثيرون ذا أهمية خاصة فى استكمال خارطة الطريق المعلن عنها فى يوليو 2013 وبناء الدولة الجديدة. ولكن مع اتفاقى أن كل انتخابات برلمانية مهمة وأن الجولة القادمة لها وزن خاص لأنها تعيد تكوين السلطة التشريعية الغائبة منذ ثلاث سنوات، إلا أننى لا أرى أن البرلمان المقبل سوف يعمل على تأسيس الدولة الجديدة، لأن أمامه ثلاثة تحديات كبرى سوف تقلص من أهميته وتحد من تأثيره لو لم ينجح فى تجاوزها.
التحدى الأول أن الانتخابات القادمة، بالإضافة إلى ما يحيط بها من أجواء عنف وإرهاب، ستجرى فى ظروف عامة تتعارض ومفهوم الديمقراطية، وعلى رأسها مجموعة القوانين المقيدة للحريات والمخالفة للدستور الصادرة خلال العام الماضى، ونظام القائمة المطلقة الذى لا مثيل له فى العالم، وسيطرة المال والعصبيات، وغياب الرقابة على مهزلة شراء رجال الأعمال للمرشحين بملايين الجنيهات علنا ودون حياء، والملاحقة الأمنية للشباب والأحكام الصادرة ضدهم لمجرد التعبير عن الرأى والتمسك بحق الاحتجاج السلمى، وأخيرا وليس آخرا التحريض الإعلامى ضد أصحاب الرأى المستقل أو المعارض. الانتخابات قد تجرى بحرية ودون تزوير، ولكن المناخ العام المحيط بها لا يدعم مصداقيتها.
أما التحدى الثانى فهو أن البرلمان القادم لن يؤسس لدولة جديدة لأن هذه الدولة قد أعادت بالفعل تأسيس نفسها بنفسها فى غياب السلطة التشريعية، وبما لا يدع مجالا كبيرا للبرلمان المقبل فى وضع الأسس التى ينهض عليها المجتمع. فالدستور تم وضعه وإقراره. ورئيس الجمهورية تم انتخابه. وتعيين الحكومة أصبح واقعيا فى يد رئيس الجمهورية لأن اعتراض البرلمان عليها يعرضه ــ أى البرلمان ــ للحل. والمحافظون تم تعيينهم قبل الانتخابات بأسابيع قليلة. والقوانين والسياسات الاقتصادية جار الانتهاء منها لكى تعرض على المؤتمر الاقتصادى مطلع الشهر القادم. وخلال العامين الماضيين صدرت عشرات القوانين التى لن يكون أمام البرلمان سوى بضعة أيام لكى يحسم أمره منها. باختصار فإن البرلمان القادم سيظهر إلى النور بعد أن تكون الدولة الجديدة قد رتبت أوضاعها بما لا يترك له مجالا واسعا للحركة والتأثير.
وأخيرا فإن التحدى الثالث يرتبط بشكل وتكوين البرلمان نفسه. فالنظام الانتخابى الذى تمسكت به الدولة، رغم اعتراض كل القوى السياسية، تم تصميمه لكى ينتج برلمانا ضعيفا ومفككا، ليست فيه قوى سياسية مسيطرة أو حتى رئيسية. ومعنى هذا أن مصر مقبلة، ولأول مرة منذ عشرات السنوات، على تشكيل برلمان لن يكون فيه حزب يمثل الحكومة ولا أحزاب معارضة، ولن تكون فيه أغلبية برلمانية تطرح برنامجا متسقا أو رؤية يمكن التفاعل معها بالدعم أو بالمعارضة، بل سيكون أقرب إلى الملعب المفتوح الذى يركض فيه مئات اللاعبين فى كل اتجاه دون أن تجمعهم فرق أو خطط أو أهداف واضحة. وهذا كله يضع البرلمان أمام تحدى أن يعمل بكفاءة وألا يسقط ضحية لهذا التفكك والتشرذم ويقدر على القيام بمهمته فى الرقابة والتشريع بما يحافظ على هيبة واحترام السلطة التشريعية.
هل هذه التحديات تعنى أن الانتخابات المقبلة بلا طائل ولا أهمية؟ بالعكس، البرلمان مطلوب والانتخابات ضرورية لأن نتيجتها سوف تعبر عن الحالة السياسية الراهنة، وعن التوزيع الحالى للقوى بين الأطراف والمصالح الباقية على الساحة أو العائدة إليها، حتى ولو كانت النتيجة هى عودة سيطرة العصبيات ورأس المال. فالانتخابات ــ مادام لم يتم تزويرها ــ لها طبيعة كاشفة ينبغى الاعتراف بها والتعامل معها. كذلك فإن تشكيل برلمان جديد، مهما شابته عيوب، يعنى عودة السلطة التشريعية إلى مجلس منتخب وانتهاء صلاحية التشريع الاستثنائية التى كانت بيد رئيس الجمهورية وحده طوال الفترة الماضية، وهذا يضمن للمجتمع على الأقل مناقشة القوانين الجديدة بشفافية والعلم بها مسبقا بدلا من قراءتها للمرة الأولى بعد نشرها فى الجريدة الرسمية. وأخيرا فإن تشكيل مجلس الأمة الجديد خطوة مطلوبة للأمام لأنه سوف يضع نهاية لحالة الترقب والجدل العقيم التى شغلت المجتمع طوال العامين الماضيين حول موعد الانتخابات والنظام الذى ستجرى به وتحالفات الأحزاب وتشكيل القوائم، وهو ما أصاب الناس بالضجر ودفعهم للعزوف عن السياسة والشأن العام بأسره. فبنهاية الانتخابات وتشكيل البرلمان لن يعود هناك مفر من العودة لمناقشة قضايا ومشكلات المجتمع اليومية والتفاعل معها.
البرلمان القادم لن يكون حاسما فى تحديد شكل الدولة ولا هوية الوطن، ولكنه ضرورى لكى يمكن للبلد أن يخطو خطوة للأمام تعطلت كثيرا، ويبدأ فى مواجهة تحديات المرحلة المقبلة، لأن تأجيل الانتخابات مرة أخرى أو الاستغناء عن البرلمان ليس بديلا مقبولا. ولنتذكر أن البرلمان ساحة مهمة للتفاعل السياسى، ولكنها ليست الوحيدة ولا الأهم، وعلينا الانتهاء من هذا البند والانتقال إلى البنود التالية. لذلك، وبرغم اعتذارى شخصيا منذ فترة عن خوض هذه الانتخابات، فإننى أتوجه بالتحية إلى كل من قرروا دخول هذا المعترك فى مثل هذه الأجواء والظروف الصعبة دفاعا عن المساحة الضيقة المتاحة من المجال السياسى وتمسكا بحمل راية التغيير.