لابد أن زوجتى وأولادى قد لاحظوا علىّ، مع تقدمى فى السن، أنى أعود، المرة بعد الأخرى، إلى تكرار وصف حادث حدث لى، واعتبره طريفا، أو جملة بليغة قرأتها فى كتاب أو سمعتها من شخص ما، وأعجبتنى، أو إلى وصف منظر من فيلم أو مسرحية أثر فى نفسى، وأحيانا إلى تكرار نكتة قديمة سمعوها منى من قبل أكثر من مرة. لاحظوا أيضا أنه لا يبدو علىَّ أى خجل عندما أتبين من تعبيرات وجوههم، أو حتى مما يقولونه صراحة، أنهم سبق لهم سماع هذا عدة مرات من قبل. بل قد أضحك وأستمر لإكمال ما بدأته، وكأنى أريد أن أروى الحادث أو القصة لنفسى لا لهم. قد يتحول الأمر إلى ضحك متبادل بينى وبينهم، ليس بسبب طرافة القصة، بل بسبب إصرارى على حكايتها من جديد رغم كل شىء.
لدىّ حصيلة كبيرة من هذه القصص والحواديت، ولا أكفّ عن تذكرّ المزيد منها. لدىّ أيضا حصيلة كبيرة من قصص ومواقف أخرى لا تصلح بالضبط لأن تكون موضوعا لتبادل الحديث مع أسرتى على مائدة الغذاء أو مع الضيوف. ومع هذا فهى أيضا قصص ومواقف أثيرة لدىّ، لما تركته من أثر فى نفسى مازال قويا رغم مرور الزمن. لدىّ رغبة لا تقاوم فى كتابة كل هذا على الورق. وأظن أن السبب فى هذه الرغبة القوية هو نفسه الذى يدفعنى إلى حكايتها لأسرتى المرة بعد المرة، وهو شعورى بأن لكل منها مغزى عاما من المفيد إدراكه وتأمله، وقد يتعلق بشخصية مهمة ومعروفة ويلقى ضوءا جديدا عليها. بل يزداد شعورى قوة، مع مرور الوقت بأنه عدم تدوين ذلك ونشره قد يكون ذنبا لا يغتفر.
•••
كنت أثناء سنوات إقامتى فى البعثة بإنجلترا أتلقى خطابات من أمى من حين لآخر. كانت خطابات قصيرة، لا تكتبها عادة إلا عندما ألح فى خطاباتى طالبا أن تكتب إلى، إذ لم تكن تجد كتابة الخطابات مهمة سهلة، خاصة مع تدهور صحتها. لم تكن تسهب فى ذكر أى تفاصيل، مع رغبتى الشديدة فى ذلك، وكانت هناك عبارة تتكرر فى كل خطاب منها وهى أن «أخبارنا كلنا على ما يرام». وقد تبينت مع مرور الوقت ان هذا القول كان أبعد ما يكون عن الحقيقة. فالأحداث كثيرة، ومنها الكثير من الأحداث المهمة، ولم تكن كلها أبدا «على ما يرام». ولكنى تبينت أيضا مع مرور السنين، أننا كثيرا ما نتعامل مع أحداث الحياة وكأنها «كلها على ما يرام»، مع أننا نادرا ما تكون كذلك. يبدو لى الآن أن الأحداث المهمة، سواء كانت مما يرام أو لم تكن، نادرا ما تحدث دفعة واحدة. فالصدمة عادة لا تصيبنا فجأة، وقد تمر فترة طويلة بين بدايتها ونهايتها، كما ان الأحداث المفرحة قلما تحدث خالية من أى شائبة، مما يخفف من أثر الصدمة والحدث المفرح علينا، وإذا بنا عندما نلقى نظرة على ما حدث خلال فترة ماضية قد نتصور أنه لم يحدث لنا شىء جديد مهم، لا مفرح ولا محزن، أى أن الأمور تبدو لنا وكأنها تسير «على ما يرام» دون أن تكون الحقيقة كذلك.
•••
ولكن هناك سببا آخر لرواية هذه القصص. إنى أعرف أنه لا يمكن لكاتب، مهما بلغت جرأته، أن يقول كل الحقيقة، لا عن نفسه ولا عن كثيرين ممن عرفهم من الناس. ولكنى لا أخفى على القارئ أنى كنت دائما أطوى نفسى على أمل دفين فى أن أقترب أكثر فأكثر، فى يوم ما فى المستقبل، من قول الحقيقة كاملة. كنت ولا أزال أعتبر الامتناع أو العجز عن قول كل ما نعرفه من حقائق، أمرا مؤسفا حقا من كل ناحية. فإذا كان الغرض من الكتابة فى النهاية هو الوصول إلى فهم أعمق للناس أو للحياة أو للسياسة...إلخ، فإن حجب بعض الحقائق لابد أن يجعل هذا الفهم قاصرا، وقد يجعله مستحيلا. إن ذهنى لا ينصرف، عندما أتكلم عن فائدة الصراحة وقول كل الحقيقة، إلى الكلام عن الجنس. إن كثيرين يفهمون أن المقصود بالصراحة المطلوبة فى الكتابة، هو الصراحة فى الكلام عن الأمور الجنسية على وجه الخصوص. وأنا أستغرب هذا الفهم وأستهجنه. فالمرأة التى تسير عارية الساقين فى الشارع (وكذلك الكاتب الذى يصفها بلا داع) لا تفعل ذلك بقصد الكشف عن الحقيقة، بل بقصد الإثارة. هذا موضوع يخرج تماما عما أقصد قوله الآن. إن أوجه الصراحة المطلوبة، وصور الكتمان غير المطلوب، تشمل أشياء كثيرة جدا غير الجنس، وقد تكون أكثر أهمية منه. والميول الإنسانية وأوجه الضعف الإنسانى التى قد يرغب الكاتب فى إخفائها، فى غير مجال العلاقات الجنسية، كثيرة بحيث يصعب حصرها، كما أنها مهمة بحيث تستحق الذكر.
هذا الاعتقاد القوى لدى بأننا نقضى حياتنا، ونكتب الكتب والمقالات دون أن نقول إلا جزءا صغيرا من الحقيقة، هو أحد الدوافع التى تدفعنى إلى كتابة هذه القصص. وهو اعتقاد يقترن به اعتقاد آخر راسخ لدى (وهو دافع آخر لكتابتها، لدى أمل فى اقناع القارئ به)، ويتلخص فى أنه يكاد أن يكون من المستحيل ان نعثر على شخص، مهما كانت قوته وجاذبيته، لا ينطوى على أوجه ضعف مهمة، قد يحاول هو (أو هى) إخفاءها بالطبع، ولكن لا مصلحة هناك لمن يكتب عن الناس أو يقرأ عنهم، فى تجاهلها أو التظاهر بعدم وجودها. كم كان سرورى إذن عندما صادفت الفقرة التالية فى رواية للكاتب الروسى ألكسندر زولجانشتاين:
«يا ليت الأمور بهذه البساطة. يا ليت الأشرار من الناس يرتكبون أعمالهم الشريرة فى مكان منعزل بحيث يمكننا منعهم من الاتصال بنا، ثم نقوم بالقضاء عليهم. ولكن الأمور ليست كذلك، بل ان الخط الذى يفصل بين الخير والشر يمر داخل قلب كل كائن بشرى. ومن الذى يقبل أن يتخلص من جزء من قلبه؟».
•••
يعجبنى التشبيه الذى استخدمه نجيب محفوظ فى إحدى مقالاته القصيرة، والتى كتبها (أو أملاها) قبل وفاته بسنوات قليلة. قال انه فى حياته الآن، وفيما يقوم بكتابته، يشبه الشخص الذى استقل القطار ذاهبا إلى الإسكندرية، وقبل وصوله للمحطة النهائية، وقف به القطار كالعادة فى المحطة الشهيرة (سيدى جابر)، وهى تقع داخل مدينة الاسكندرية نفسها، ولكنها ليست المحطة النهائية، التى يفصلها عنها نحو خمس دقائق. عند وصول القطار إلى محطة (سيدى جابر)، يبدأ الركاب فى جمع حقائبهم المتناثرة، فإذا كانوا يقرأون كتابا أو مجلة، فقد يتوقفون عن القراءة، ولا يخطر ببالهم ان يبدأوا شيئا جديدا، إذ ليس هناك من الوقت ما يسمح لهم بإتمامه إذا بدأوه.
كنت أشعر بشىء شبيه بذلك عندما فكرت فى كتابة هذه القصص، فالشروع فى كتابتها ليس بدءا فى عمل جديد، بل هو بمثابة لملمة وتنظيم لأشيائى القديمة. يهمنى الآن ألا أترك ورائى فى القطار شيئا مهما. فهل يسمح لى القارئ بأن أشغله ببعض هذه القصص فى مقالات قادمة؟