طه حسين أصبح عميـدًا للأدب العربى ردًا على عزل الحكومة له من عمادة الآداب
بلغت مهزلة التدخل فى شئون الجامعة ذروتها مع تدخل أولياء الأمور فيما يدرسه الطلاب
لم تكن أزمات طه حسين فى الجامعة أزمات تتعلق بحرية البحث العلمى والحريات الأكاديمية فقط، بل ارتبطت أيضا باستقلال الجامعة؛ فلم تكد آثار أزمة الشعر الجاهلى تهدأ حتى تفجرت أزمة جديدة للدكتور طه حسين الذى صار أول عميد مصرى لكلية الآداب، كانت أزمة من نوع جديد، أزمة استقلال الجامعة والتدخل السياسى للدولة فيها، لقد بدأ التدخل السياسى من الدولة فى الجامعة مبكرا، ففى ظل الانقلاب الدستورى الذى قاده إسماعيل باشا صدقى فى الفترة من 1930 إلى 1933 وقعت أول أزمة سياسية فى الجامعة كان الدكتور طه حسين عميد كلية الآداب حينذاك ضحيتها.فقد كانت للرجل مواقفه المؤيدة للديمقراطية والمعادية للديكتاتورية، وكان يحترم القيم الجامعية ولا يتهاون فيها، وعندما رفض الأوامر الحكومية بمنح الدكتوراه الفخرية لمن لا يستحقها، كان رد الحكومة عزله من عمادة كلية الآداب ونقله بعيدا عن الجامعة ليعمل موظفا بوزارة المعارف، لكن لأن قيم الليبرالية كانت راسخة فى المجتمع جاء رد الفعل قويا، لقد استقال مدير الجامعة أحمد لطفى السيد باشا من منصبه احتجاجا على تجاوز الحكومة لحدودها وتعديها على استقلال الجامعة، وكان ذلك فى يوم 9 مارس 1932، اليوم الذى أصبح شعارا لحركة استقلال الجامعات المصرية، وقرر المثقفون تنصيب طه حسين عميدا للأدب العربى ردا على عزل الحكومة له من عمادة كلية الآداب، ولم تمض سنوات قليلة إلا وكانت الحركة الوطنية قد نجحت فى إسقاط حكومة صدقى ومن بعدها حكومة توفيق نسيم، وعاد دستور 23 الديمقراطى، وعاد طه حسين إلى الجامعة محمولا على الأعناق، فعلا لا مجازا، فقد حمله طلاب كليته وطلاب الجامعة على أعناقهم فى مظاهرة كبيرة ردوا بها على طغيان السلطة. لقد مرت الأزمة السياسية الأولى فى الجامعة المصرية بسلام، لكن الأمر تفاقم مع وصول حركة الضباط الأحرار إلى السلطة وظهور مصطلح «التطهير» فى حياتنا المصرية، ففى أواخر عام 1952 طالت رياح «التطهير» الجامعة، وكان الضحية واحدا من أبرز أساتذة كلية الآداب فى مجال التاريخ، الدكتور محمد صبرى الشهير بصبرى السوربونى، الذى كان من أوائل من حصلوا على درجة الدكتوراه فى التاريخ من جامعة السوربون فى فرنسا، لذلك نسب إليها، وكان السوربونى من الطلاب الذين ناصروا ثورة 1919 وتطوعوا لدعم الوفد المصرى فى باريس، وقد ألف أثناء الثورة كتابا وثائقيا بالفرنسية نشره فى باريس فضح فيه جرائم الاحتلال فى مصر بالصور، وتعرض الرجل للاضطهاد فى العهد الملكى بسبب مواقفه الوطنية، لكنه خرج فى التطهير بسبب شكوى من طالب فشل فى الالتحاق بمعهد الوثائق والمكتبات بكلية الآداب فتقدم بشكوى أدت إلى فصل السوربونى من الجامعة دون اتخاذ إجراءات قانونية سليمة، وفقدت الجامعة أستاذا من أهم أساتذتها فى مجال تخصصه.
وقد بلغت المأساة ذروتها فيما يعرف بأزمة مارس 1954 التى قرر فيها قادة حركة الضباط الأحرار عزل رئيس الحركة اللواء محمد نجيب والتراجع عن خيار الديمقراطية، وأصابت الجامعة مع مؤسسات أخرى كارثة التطهير، وتم استبعاد مجموعة من خيرة الأساتذة بعيدا عن الجامعة بسبب مواقفهم السياسية المعارضة للنظام الجديد، ومن يومها أصبح التطهير سيفا مسلطا على رقبة الجامعة، واختفت حرية الفكر والتعبير فى مؤسسة عملها هو الفكر، فتراجع بالتبعية النشاط الأكاديمى والبحث العلمى، وتراجعت المشاركة فى الإدارة واتخاذ القرار إلى أدنى الحدود، فبدأ انهيار الجامعة.
ولم يكن ما حدث فى 1954 أمرا وانتهى بل أصبح منهجا فى تعامل نظام يوليو مع الجامعة، حتى عندما جاء الرئيس السادات بخطاب سياسى مغاير إلى حد ما فى قضايا الديمقراطية والتعددية لم تسلم الجامعة من عدوان الدولة عليها وعلى حريتها، فانتهى عصر السادات وهناك أكثر من مائة أستاذ جامعى من خيرة العقول الأكاديمية مبعدين عن الجامعات إلى وزارة الإسكان وهيئة التأمينات ووزارة الرى وغيرها من المصالح الحكومية، هذا فضلا عن عشرات من الأساتذة استضافتهم السجون والمعتقلات فى أحداث سبتمبر 1981، وكل ذلك بسبب المواقف السياسية والفكرية لهؤلاء الأساتذة. لقد كان تدخل السلطة الطاغى فى النشاط السياسى والأكاديمى للطلاب والأساتذة سببا أساسيا من أسباب انهيار الجامعات المصرية.
وبلغت المهزلة مداها مع تدخل أولياء الأمور فيما تدرسه الجامعات، فبين فترة وأخرى تصحو الجامعة على ضجة يثيرها ولى أمر اعتراضا على نص يدرس فى الجامعة، والأمثلة كثيرة يحضرنى منها: الاعتراض على تدريس «ألف ليلة وليلة» فى الثمانينيات، وعلى تدريس رواية «موسم الهجرة للشمال» للروائى السودانى الكبير الطيب صالح فى التسعينيات، بدعوى خروجهما على الآداب العامة، والواقعتان من كلية الآداب بجامعة القاهرة، والضجة التى أثيرت بسبب تدريس رواية «الخبز الحافى» للأديب المغربى محمد شكرى بالجامعة الأمريكية، وعلى وضع كتاب «محمد» للمفكر الفرنسى مكسيم رودنسون ضمن قائمة مراجع يطلع عليها الطلبة فى نفس الجامعة، وتعكس هذه الظاهرة ضيق هامش الحرية داخل الجامعة يوما بعد يوم، وقد كانت استجابة الجامعة متفاوتة من حالة إلى أخرى لكنها جميعا أتت فى إطار الحل الوسط الذى فرض نفسه منذ أزمة طه حسين مع الشيخ المهدى وأزمة كتاب الشعر الجاهلى.
وإذا كان استقلال الجامعة عن الدولة أمرا حيويا، فلا يقل عنه أهمية حماية حرية الرأى والتعبير والبحث العلمى ورفض وصاية أية جهة داخل الجامعة أو خارجها على الحريات الأكاديمية، دون ذلك لن يتطور بحث علمى حقيقى فى هذا المجتمع. وفى تاريخ الجامعة المصرية لم يأت التعدى على الحريات الأكاديمية من الدولة فى أغلب الأحيان، بل أتى من المجتمع وأحيانا من داخل الجامعة نفسها.
ويبقى السؤال: هل غيرت الجامعة المجتمع؟