فى الاجتماعات والندوات والمؤتمرات الكثيرة التى اشتركت فيها على مر السنين، رأيت تفاوتا كبيرا بين المشاركين فى درجة اللطف أو الغلظة فى الحديث، فى الاختصار المفيد أو الاطناب بلا مبرر، فى درجة الهدوء أو التشنج، فى سلاسة المنطق أو اضطرابه...إلخ. ولكنى لاحظت أيضا شيئا مهما يختلف فيه المتناقشون، وهو درجة الأهمية التى يعلقونها على الألفاظ وحرفية النصوص بالمقارنة بالمعانى التى يمكن أن تفسر بها هذه الألفاظ أو النصوص، أو خطر هذه الألفاظ والنصوص من التطبيق الفعلى فى الواقع.
ما أكثر الحالات التى صادفتها التى يحتدم فيها الخلاف، ويفقد فيها البعض أعصابه ويتوتر الجو، ثم لا ينتهى الاجتماع إلى أى نتيجة على الإطلاق، فيضيع الوقت سدى، أو يؤجل الاجتماع مرة بعد أخرى، ويكون السبب فى كل هذا خلاف حول استخدام لفظ بدل لفظ آخر، أو ما إذا كان من الواجب إطلاق وصف معين دون غيره، دون أن يكون هناك فارق ذو شأن بينهما، أو دون أن تكون هناك أى نتيجة عملية على الاطلاق لاستخدام هذا الوصف أو ذلك اللفظ دون غيره.
لاحظت أيضا أن شخصية رئيس الجلسة كثيرا ما تكون عاملا حاسما فى نجاح الحوار أو فشله، ليس فقط بسبب قوة أو ضعف فى شخصيته، بل وأيضا بسبب إدراكه أو عدم إدراكه لهذه النقطة التى ذكرتها حالا: هل سيسمح أو لا يسمح بإضاعة الوقت فى جدل عقيم حول اختيار كلمة دون أخرى، وهل سيلفت نظر الحاضرين إلى أن الأهم من ذلك أن يكونوا متفقين على المعنى الذى يقصد بهذا اللفظ أو ذاك، بل والأهم من هذا أيضا فرصة هذا المعنى أو ذاك من التطبيق العملى.
إنى أذكر جيدا احتدام النقاش بين المثقفين المصريين فى أوائل الستينيات من القرن الماضى، حول ما إذا كان من الواجب تسمية اشتراكية عبدالناصر (بالاشتراكية العربية)، أو الاقتصار على تسميتها بالاشتراكية دون أى وصف، ثم تبين لنا بعد مرور سنوات من تطبيق الإجراءات الناصرية فى التأميم وإعادة توزيع الدخل، أن هذا الخلاف حول الألفاظ لم تكن له أى فائدة على الإطلاق، إذ لم يكن لاستخدام هذا الوصف أو عدم استخدامه أى أثر على ما كان ينوى عبدالناصر عمله، ولا على ما قام به بالفعل.
ومع هذا فإنى أزعم أن المصرى (بصفة عامة) يمتاز عن شعوب أخرى كثيرة بنفوره من الانشغال بالألفاظ على حساب المضمون، وقلة صبره على إضاعة الوقت فى المناقشة حول الألفاظ، حينما يكون المعنى المقصود واضحا ومتفقا عليه. فالمصرى قليل الصبر على من «يتصدر للهايفة»، وينسى المهم، ويصر على أن يطلب من محاوره الانتهاء من الثرثرة و«يجيب من الآخر» ...إلخ وأميل إلى تفسير ذلك بالحكمة التى ورثها المصرى عبر العصور، وإدراكه الفطرى للتريث الصحيح للأولويات.
بل انى أزعم أن ميل المصريين إلى مايسمى «بالإسلام الوسطى»، له علاقة وثيقة بما نتكلم فيه الآن. إن الاتجاه الوسطى قد يقصد به عدم التطرف فى اتجاه أو آخر، وتفضيل الموقف المتوسط بين الطرفين. ولكنى أميل إلى فهم الاتجاه الوسطى أيضا بمعنى التسامح فى فهم أى لفظ من الألفاظ، بحيث يعترف بأن اللفظ الذى يحسن فهمه بمعنى معين فى ظروف معينة، يحسن فهمه بمعنى مختلف فى ظروف مغايرة. وأرى أن شغف المصرى العادى (أى غير المتحذلق) بالقول المأثور «إنما الأعمال بالنيات)، يمكن أن يفسر بمعنى التسامح وعدم التطرف، إذ يتضمن أن يُغفر للمرء ما قد يعتبر خطأ فى السلوك الظاهرى، متى كان الباطن نقيا والنية سليمة.
●●●
ومع هذا فإنى عندما أستعيد فى ذهنى ما استغرق فيه المصريون من جدل وحوار وخصومات خلال الخمسة عشر شهرا الماضية، يدور فى نفسها الشك فيما إذا كان المصريون فعلا على هذه الدرجة من الحكمة. مناقشات عنيفة حول الاستفتاء (الذى أجرى فى مارس 2011) إلى درجة اتهام من يقول (لا) بالكفر، وتعديلات للدستور يليها إعلان دستورى جديد بدون استفتاء، ووثيقة تطرح للحوار فيحتدم عليها الخلاف أيضا ويكثر الصياح، ثم تسحب الوثيقة وكأنها لم تكن، واجتماعات لا تنتهى يدعى إليها «للتشاور»، ثم يعقبها تشكيل لجنة استشارية لحل الخلافات، فينسحب عضو منها بعد آخر حتى تنتهى إلى لا شىء. ثم لجان لوضع معايير لتشكيل لجنة تأسيسية بغرض وضع دستور جديد، كان يمكن وضعه من البداية، ثم خلاف حول ما إذا كان من الأفضل وضع الدستور، أولا أم انتخاب رئيس الجمهورية أولا، ثم يقترح البعض أن الأفضل من هذا وذاك وضع دستور مختصر أولا ثم تجرى الانتخابات ثم يوضع دستور مفصّل...إلخ.
لقد نسى المصريون بلا شك الحقيقة الآتية: أن من الممكن جدا الاتفاق على دستور رائع ثم يجرى إهماله إهمالا تاما فلا يطبق، أو أن نضع دستورا يقيد من سلطات رئيس الجمهورية ثم يأتى رئيس لا يبالى بما يفرضه الدستور عليه من قيود ويتصرف على هواه، وأن من الممكن أيضا أن يلتزم رئيس الجمهورية حدوده، وأن يحترم مشاعر الناس دون أن يكون هناك أى دستور على الإطلاق، أو على الأقل فى ظل عدد قليل جدا من المداد، طالما توفرت النية الحسنة، وكأن الممسكون بالسلطة يريدون حقا ما فيه مصلحة الوطن.
●●●
سأضرب للقارئ بعض الأمثلة. ما كل هذا الخوف الذى تثيره المادة الثانية من الدستور لدى البعض، أو الخوف من المساس بها غير آخرين، أو إصرار البعض على إضافة بعض العبارات إليها، أو مطالبة آخرين بإلغاء كلمة «المبادئ» الواردة فيها، فيشار فقط إلى الشريعة بدلا من مبادئ الشريعة، أو بإحلال كلمة «أحكام» بدلا من كلمة «مبادئ» ...إلخ؟ هل نظن حقا أن اختيار هذا التعبير أو ذاك سوف يحسم ما بيننا من خلاف فى الرأى حول الموقف الأمثل فى معاملة الأقباط مثلا؟ فينهى أو لا ينهى التمييز بينهم وبين المسلمين فى التوظف أو الترشح للمناصب العليا أو بناء دور العبادة...إلخ؟ إنى أزعم أن الذى سيحسم كل هذه الأمور وأمثالها فى التطبيق العملى ليس طريقة صياغة هذه المادة أو غيرها، بل مدى توفر حسن النية إزاء الأقباط والمشاعر الحقيقية إزاءهم لدى الممسكين بالسلطة، بل ولدى الأشخاص العاديين الذين فى أيديهم حسن معاملة القبطى أو الإساءة إليه. ولدينا العديد من الأمثلة على ذلك من تاريخنا وتاريخ غيرنا. ما الذى جعل معاملة الأقباط خلال الفترة الممتدة بين ثورة 1919 وثورة 1952 أفضل منها الآن؟ ليس أن دستور 1923 تضمن نصوصا لم تتضمنها النصوص اللاحقة، بل إن شعور المصريين المسلمين تجاه الأقباط كان أفضل بكثير (بصفة عامة) مما هو الآن. وقد كان الأمر كذلك لأسباب اجتماعية وسياسية يطول شرحها ولكن ليس من الصعب تبنيها. ودستور 1971 الذى أضاف السادات إليه المادة الثانية المشهورة، والتى تنص على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الأساسى للتشريع فى مصر، لم يترتب عليها أى انتصار حقيقى للشريعة الإسلامية، إذ لم تصبح القوانين المصرية بعدها أقرب إلى الشريعة مما كانت قبلها.
كذلك فإن ديكتاتورية رجل مثل ستالين أو هتلر لم تحدث بسبب وجود دستور فى روسيا السوفييتية أو فى ألمانيا يسمح لها بذلك. بل ثم ذلك فى ظل دساتير تتكلم مثل غيرها من الدساتير عن الديمقراطية والحرية وسيادة القانون وحقوق الإنسان ...إلخ. لم يكن ستالين أو هتلر فى حاجة إلى تغيير الدستور لكى يرتكبا ما قاما بارتكابه من فظائع، بل فسر كل منهما مواد الدستور التفسير الذى يلائم هواه، برضا الشعب أحيانا وبدون رضاه فى أحيان أخرى.
●●●
إن المبالغة فى تعليق أهمته على ما تقوله النصوص وما لا تقوله، المبالغة بصفة عامة فى تعليق الأهمية على الألفاظ بدلا من المعانى، وعلى ما يتفوّه به الشخص بدلا من الالتفات إلى مقصده الحقيقى ونواياه، قد تدل على صفات نفسية سيئة، كضيق الأفق، أو سهولة الانخداع بالمظهر...إلخ. فإذا شاع هذا الاتجاه نحو المبالغة فى تغليب المظهر على الجوهر، واللفظ على المعنى، وتعليق أهمية على السلوك الخارجى أكبر مما يعلق على ما يدور داخل النفس، فهو دليل على طور مؤسف فى الحياة الاجتماعية والثقافية. وأعتقد أن هذا التطور المؤسف قد حدث بالفعل فى الحياة المصرية خلال الأربعين أو الخمسين عاما الماضية. إن علاج هذه الظاهرة ليس مستحيلا، ولكنه لا يحدث بتغيير القوانين أو الدساتير، بل بتغيير النفوس. والنفوس لا تتغير بالمواعظ، بل بتغيير الظروف التى نعيش فيها.
هل معنى هذا أنه لا فائدة مطلقا من أى حوار حول صياغة مواد الدستور الجديد أو أى قانون ينظم سلوك الناس؟ ليس هذا ما أقصده. بل أقصد أولا ضبط النفس إذا دار مثل هذا الحوار، وعدم اعتبار استخدام لفظ أو تعبير معين دون غيره مسألة حياة أو موت، فيما يتعلق بحماية الحريات، أو إعلاء شأن الدين أو احترام ثوابت الأمة، والتسامح إزاء أى مواقف مخالفة فى هذا الصدد، ما دامت النتيجة النهائية سوف تتقرر، لا بناء على اللفظ أو التعبير المستخدم بل على أشياء أخرى. كما أقصد الالتفات إلى هذه «الأشياء الأخرى»، كأحوال الناس الاقتصادية والتعليمية والثقافية، وإعطائها الأهمية التى تستحقها، فهى العوامل الحاسمة حقا حتى لو احتاج الأمر إلى وقت طويل قبل أن تؤتى هذه الإصلاحات ثمارها.
●●●
إن نفس الملاحظة تنطبق على ذلك الاتجاه الذى ازداد قوة فى مصر خلال العقود الأخيرة بالدعوة إلى تقييد حرية الفنانين والأدباء (ومن يسمون بالمبدعين) وتكميم أفواههم باستصدار قوانين أو أحكام قضائية بدعوى حماية الأخلاق ومكافحة الرذيلة. فالأخلاق لا تتحسن باستصدار قوانين أو أحكام قضائية، كما أن الطفل سيئ السلوك لا تفلح فى تقويمه قسوة الأب أو الأم، بل الأرجح أن قسوة الأب والأم هى أحد أسباب سوء سلوكه. بل يقوّمه تحسين الظروف التى يعيش فيها، وكذلك المجتمع سيئ السلوك، لا يفلح فى إصلاحه منع الأفلام والكتب الإباحية أو مصادرتها، أو منع السياح من ارتداء ملابس معينة على الشواطئ...إلخ.
اخلق الظروف التى تجعل الناس تنصرف عن الأفلام والكتب الإباحية، وتزهد فى التفرج على مناظر العرى على الشاطئ أو غيره، ودع السياح وشأنهم طالما امتنعوا عن الإساءة إلى مشاعر الناس.
فالعبرة هنا أيضا بما يدور داخل الذن، سواء فى ذهن الفنان أو الأديب، أو فى ذهن السائح، وهذا الذى يدور فى الذهن ليس من لاصعب اكتشافه، إذا حسنت نية القارئ أو الناقد الأدبى أو الفنى أو الاجتماعى. على أى حال، فلتجعل الرقابة والمصادرة والمنع والعقاب آخر شىء نلجأ إليه، إذ أن هذه الأساليب لا جدوى منها فى الحقيقة لنشر الأخلاق الحميدة. إن هذا ليس دعوة إلى التسيب فى السلوك والأخلاق، وإنما ندعو فقط إلى الكف عن التظاهر أو الظن بأن من الممكن تحويل شخص أو مجتمع فاسد إلى شخص أو مجتمع فاضل باستخدام القوة.
نعم، مجتمعنا عانى طويلا ولايزال يعانى من ديكتاتورية فظيعة، ومن تسبب أخلاقى على كافة المستويات. ولكن الذى أريد تأكيده أن علاج هذا وذاك لن يكون بإدخال نصوص معينة فى الدستور أو إلغاء بعضها، ولا بالقبض على الفنانين ومحاكمتهم، بل بالبدء فورا فى إدخال الإصلاحات اللازمة على حالة الاقتصاد والمجتمع والتعليم. ويا ليت مجالسنا التشريعية تعطى وقتا لمناقشة هذه الأمور أكبر مما تعطيه لإدخال تعديلات لفظية لا أثر لها فى الواقع.