لا تُذكَر المُقاومة إلا وذُكِرَت فلسطين؛ آخر البلدان المُحتلة على وجه الأرض. حدود وحواجز ومتاريس، رصاصات حيّة وجرافات، وطوافات تحجب أحيانًا السماء، ثم مُقاومة مُتواصلة لا تكلُّ ولا تتوانى. شهداء يسقطون ويحل مَحلَّهم آخرون، وشعراء اكتسبت كلماتُهم الصفة، وعرفتهم بها الجماهير؛ ما بين محمود درويش وسميح القاسم وفدوى طوقان، ازدهر شعر المُقاومة واستقر.
***
تذكر مَعاجِم اللغة العربية في أصل الكلمة ومشتقاتها أن القيامُ في الشائع مِن الاستخدام هو نقيض الجلوس، وهو كذلك الوقوف والثبات في المكان. الفعل قام يقوم قومًا، وقامَ يفعل كذا بمعنى عَزم، أما أن يظلَّ الرجل قائمًا على الأمر فبمعنى أن يبقى مُحافظًا عليه. قاوَمَه في المُصارَعة أي غَالبَهَ، وقَاوَمَ أَعْدَاءَه مُقاوَمة؛ أي نَاضَلَ ضِدَّهُمْ وعَارَضَهُمْ بِالْقُوَّةِ، وتقاوموا في الحربِ أي وقفَ بعضُهم لبعض، وراح الشيخ يُقَاوِمُ الْمَرَضَ أي يُوَاجِهُهُ.
***
لعبت المُقاومةُ الشعبيةُ دورًا سجَّله التاريخُ في مُدن القناة؛ حربٌ دارت رحاها في الشوارعِ والبيوتِ، حماسةٌ وغضبٌ وإصرار، وإرادةٌ لا تلين. حالٌ تبدد الركودَ، وتزيل الأدرانَ مِن القلوب، وتُسكِن بدلًا منها قدرة هائلة قوامها التحدي؛ الشعب يقاوم، والعدو ظاهر، والقرار مَحسوم. في بعض الأحوال يستعصى تعريفُ العدو، فالغزو قد لا يأتي مِن الخارج، والقصف لا يطال البيوت؛ لكنه الظُلم يفتّت النفوسَ ويدكُّ الحصونَ ويقهر الجبال، وفي مواجهته تكون المقاومةُ الشعبيةُ ألزمَ وأوجبَ ما تكون.
***
على مَرّ العصور، عرفَت الأممُ التي ذاقت أصفادَ الاحتلال أنواعًا مِن المُقاومة؛ مُقاومة سلمية في بقعةٍ مِن الأرض، تأتي بثمارها ولو بعد أجلٍ طويل، وأخرى مُسلحة تحاول اختصار الوقتَ ونيلَ الحرية الغائبة، بلا إرجاءٍ ولا تأجيل. ما بين قادة كالأوتاد؛ غاندي، وجيفارا، وعمر المختار، كانت الكلمة والطلقة، ومِن رحميهما تولَّدت انتصاراتٌ عظيمة.
***
مِن الناس مَن يسعون إلى مُقاومة الزمن وأفاعيله، ومَحو علاماته مِن أجسامهم. يلجأون لوسائل شتّى قد تُكسِبهم آياتِ الشباب والنضارة، لكنهم قد ينسون أو يتناسون ما خَلف المَظهر، ولا ينتبهون لما وراء الستار؛ فربما تصيب الشيخوخةُ الروحَ ولا ترتبط بالأعمار. البشرةُ البضَّة المَشدودة لا تعكس بالضرورة قلبًا فتيًا، والشعر الداكن قد يكون لأصحابه مُبهجًا يبعد شبح الكبر، لكنه لا يعكس بالضرورة طزاجة الروح وحيويتها.
***
مقاومة التغيير والتمَسُّك بما هو كائن، أكثر أمنًا ولا شك مِن اكتشاف الجديد، وسلوك سبلٍ غير مُعتادة نخشاها. بقاءُ الوضع على ما هو عليه يُجنبنا المُجازفةَ ويكفينا مَشقَّة الحساباتِ المُعقَّدة، ويقينا ولوجَ طُرقٍ وَعِرة؛ قد تكتنفها الصعاب. كثيرون هم مَن قاوموا فكرة الثورة على مدار أعوام، قاوموا الأفضلَ لصالح الأسوأ، والأسمى لصالح الأدنى، والأكرمَ لصالح الأذل. لم تكُن المُقاومةُ مَبينةً على مَواقِف عقائدية، أو على انتماءات سياسية أصيلة، بقدر ما استندت إلى الخوف مَخلوطًا بالتكاسُل والاستسهال.
***
مُقاومة الخوفِ مَهارة مُكتسبةً لا غِنى عنها؛ فما أكثر ما نُجابه مِن مَلمَّات، بعضها شخصيّ وكثيرها عام. قد يصابُ المرءُ بشلل العقل والجسد معًا لفرطِ جَزعه، وقد ينجح في المقاومة، ويتحول خوفه إلى حافز قوة؛ يتغلب به على ما طرق بابه مِن نوازل. مُقاومَة الحزن مِن أسمى اللحظات ولا جدال؛ إذ المشاعر في أرقِّ أحوالها وأعنفها في آن، والحالُ على حقيقتها بلا زخارف ولا زينة. مُقاوَمةٌ مُرهفةٌ ورصينة، تصهر الذاتَ وتُخرِج أنقى وأنصع ما فيها، وتصقلها صقلًا.
***
تُمثِّل المُقاوَمةُ جزءًا أصيلًا مِن حيواتنا؛ مَن لم يقاوم انقرض. أغلبنا يقاوم المرضَ، يقاوم عواملَ الإفناءِ المُتكالبة، وفي بعض الأحوال يقاوم ذاتَه ليس إلا. الجالسون على أرائكِهم يقاومُون لذَّةَ الرِقاد، والرازحون تحت خطوطِ الفقرِ يقاومون وطأةَ الجوع، الرابضون في السجون يقاومون العزلةَ والحصار، والمُنخرطون في جحيمِ الحرب يقاومون الإبادةَ والمَحو مِن خرائطِ الأرض. على الضَفَّة الأخرى هناك بشرٌ يقاومون الحياةَ نفسَها وينحنون لزحفِ الموت. كُلٌّ يقاوم بطريقتِه ودفاعاتِه، كُلٌّ لديه عِللٌ وأسباب.
***
لشديد الأسف لا تَتَكَلَّل كُلُّ مُقاوَمة بالنجاح، فثمَّة هزائم لا مَفَرَّ مِنها وثمَّة انكسارات تصادفنا رغم بذل ما في الإمكان. العناد في هذه الأحوال بمَنزِلة المَنجى والمَلاذ؛ كُلَّما حضر، ترسَّخَت المقاومةَ ودامت، وتحقَّق مِنها المُراد.
***
يتأقلم المرءُ على الواقعِ مهما كان، يعتاده تدريجيًا ولو بدا مُهينًا مُزريًا. يحدث التأقلمُ ببطء، يتسلَّل بلا جَلبة، صفعةٌ وراء صفعة وإهانةٌ تلو أخرى، يصبح الأمر في النهاية طبيعيًا، لا يشذُّ عن القاعدة ولا يستَفزُّ الكبرياءَ؛ إلا أن تدفعنا البصيرةُ النافذةُ لمُقاوَمته، ورفضِ الاستسلامِ والرضاء. نبذُ التنميط والاعتياد أهم أفعال المُقاوَمة، إذ يحفظ للبشر آدميتهم ويبقي على أمل التغيير؛ في قريبٍ عاجل أو حتى آتٍ بعيد.
***