من أحب أنواع الكتب إلىّ كتب التراجم (أى كتابة سيرة شخص ما عاش بالفعل)، ومن بينها كتب السيرة الذاتية (أى السيرة التى يكتبها شخص ما عن نفسه)، فهى إذا أحسنت كتابتها يمكن أن تكون كتابا قيما فى التاريخ، وفى التحليل النفسى والاجتماعى، وقد تبلغ فى درجة تشويقها للقارئ وامتاعه ما تبلغه الرواية والقصة الناجحة.
ليس هذا شعورى نحو ما تنتجه السينما أو التليفزيون من أعمال التراجم. إنى قد أقبل بشغف على مشاهدة فيلم سينمائى أو تليفزيونى عن حياة شخص شهير، خاصة إذا كنت أحمل لهذا الشخص تقديرا كبيرا، ولكنى أفعل هذا متوجسا وخائفا من النتيجة، قد يخيب الأمل فى الفيلم، كما قد يخيب الأمل فى الكتاب، ولكن النتيجة، فى حالة الفيلم، كثيرا ما تكون أسوأ بكثير من مجرد خيبة الأمل.
فالخطأ هنا قد يُحدث ضررا يستحيل إصلاحه، بسبب ما تتركه الصورة والصوت من أثر عميق فى نفس المشاهدين، فتبقى الصورة المشوهة لشخصية عظيمة، لاصقة بالذهن ولا يفلح شىء فى محوها أو تصحيحها. إن كتاب السيرة قد يخطئ بالطبع مثلما يخطئ الفيلم، وقد يضخم أمرا تافها ويغفل الصفات أو الأعمال المهمة للشخصية التى يحكى سيرتها، ولكن الفيلم يعيد خلق الشخصية بلحمهعا ودمها، ويعهد بهذه المهمة إلى ممثل قدير أو غير قدير، فيتقمص هذا الممثل الشخصية العظيمة ويفسرها على هواه، ويقرأ عنها أو لا يقرأ، يبذل جهدا فى فهمها أو لا يبذل، بل يعتمد فقط على مهارته وجاذبيته كممثل، بل والأغلب أن يفرض الممثل شخصيته هو الخاصة على الشخصية التى يقوم بتمثيلها، فتختفى الحقيقة ولا يبقى إلا التمثيل. وقد تكون النتيجة كارثية، إذ مهما كان الفيلم ناجحا من الناحية الفنية (بل قد يزداد الأمر سوءا، كلما زاد نجاح الفيلم من الناحية الفنية) إذ قد يسىء الفيلم إساءة بالغة للحقيقة، ولفهم الناس ومعرفتهم بالتاريخ.
●●●
مررت بتجربة كهذه عدة مرات، وكانت النتيجة أنى شعرت بالأسف الشديد، وتمنيت لو لم أر الفيلم، لكى تبقى صورة الشخصية العظيمة فى ذهنى كما تخيلتها من قبل. رأيت مثلا مسلسلا تليفزيونيا عن حياة ونستون تشرشل، ذلك السياسى البريطانى الشهير، والذى كثيرا ما يشار إليه على أنه من أعظم من أنتجته بريطانيا من الرجال، فهو سياسى فذ، وكاتب ومثقف كبير، وشخصية قوية ومؤثرة، وجلب لبريطانيا، نصرا مبينا فى الحرب العالمية الثانية.
فإذا بمُشاهد الفيلم، يخرج منه بصورة كريهة للرجل، إذ اختار خطأ أو خطئين لتشرشل، أو سمة غير محببة من سماته الشخصية، فضخمها وأعطاها أكثر بكثير مما تستحقه من اهتمام، طمعا فيما أظن، فى جلب نوع من الإثارة لجمهور المشاهدين، أو استغلال لنقطة ضعف لدى كثيرين هى حب «تصغير الكبراء»، أى إبراز نقاط الضعف التى قد توجد فى العظماء، إذ كثيرا ما يحب صغار الناس أن يروا الكبار صغارا مثلهم.
شعرت بشىء مماثل، ولكن بسبب خطأ هو العكس بالضبط من خطأ فيلم تشرشل، وهو، فى هذه المرة، المبالغة فى تعظيم الشخصية التى يروى الفيلم سيرتها، وإسباغ صفات عليها مما يستحيل أن تجتمع فى شخص واحد، فتبدو الشخصية مصطنعة جدا ومضادة تماما للمنطق والمألوف. فأى نقيصة، مهما كانت صغيرة ومشهورة، يمتنع الفيلم عن ذكرها أو ينفيها نفيا قاطعا، وأى خطأ قد يرتكبه الشخص العظيم تقدم له تبريرات غير مقبولة، أو تنسب المسئولية عنه إلى غيره.
وهكذا يتحول الشخص العظيم إلى أسطورة يستحيل تكرارها أو الاقتداء بها، إذ كيف يكون بمقدورنا، نحن الناس العاديين، أن نطمح إلى الجمع بين كل هذه الفضائل؟ كان هذا مثلا شعورى عندما رأيت بعض حلقات المسلسل التليفزيونى الشهير عن حياة أم كلثوم، التى أحبها مثل ملايين غيرى حبا جما ولكنى لا أقدسها مثلما قدّسها الفيلم، وفضلت أن تبقى صورة أم كلثوم فى ذهنى كما كانت: صورة فنانة عظيمة ذات موهبة جبارة، وشخصية قوية، ومنحتنا بهذه الموهبة ساعات كثيرة من السرور الخالص، ولكنها يمكن أن تخطئ أحيانا، دون أن يؤثر هذا فى حبنا وتقديرنا لها.
●●●
أحمد فؤاد نجم من هؤلاء الرجال العظام الذين أحمل لهم حبا وتقديرا عظيمين، لأسباب عامة وخاصة، نحن جميعا نعرف فضل أحمد فؤاد نجم على الحياة الأدبية والسياسية فى مصر، ونعرف ثباته على مبدئه وقدرته المدهشة على تحمل ما جلبه له هذا الثبات على الرأى من معاناة، عبر مختلف عصور السياسة المصرية.
ولكنى كنت حسن الحظ أيضا بمعرفته معرفة شخصية، فبهرنى كما بهر كل من عرفه بقوة شخصيته، وظرفه، وترفعه عن الصغائر، ومواقفه البالغة الجاذبية من الحياة والناس، وترتيبه الصحيح للأولويات، وتميزه القاطع بين الحق والباطل، وبين الشخص الصادق والمزيف. لا أبالغ إذا قلت أيضا إنى وجدت كتابة فى السيرة الذاتية (الفاجومى) من أجمل ما قرأت من سير ذاتية على الإطلاق. إنى لا أتعاطف عادة مع الكتابة باللغة العامية، ولكن عندما يكون الأدب على هذه الدرجة من الجمال، لابد أن تتغاضى عما إذا كان قد كتب باللغة الفصحى أو العامية.
هكذا شعرت مثلا عندما قرأت السيرة الذاتية للدكتور لويس عوض (يوميات طالب بعثة)، إذ كتب كله بالعامية، ومع ذلك فهو كتاب جميل جدا ومؤثر. وكذلك أشعر بالطبع إزاء شعر صلاح جاهين، إذ إن الصدق، فيما يبدو لى، يغفر لقائله كل شىء، بينما يفسد الكذب كل شىء، سواء قيل بالعامية أو الفصحى.
هكذا أجد كل ما يكتبه أحمد فؤاد نجم، شعرا كان أو نثرا. فاستخدامه للعامية يسمح له بالوصول إلى مناطق من الشعور لا يستطيع الوصول إليها عادة كاتب الفصحى، كما يسمح له بالتعبير عن مشاعره دون مواربة. هكذا أرى نجم دائما: رجلا ضحوكا جادا، حادا كالسيف، جريئا فى تعبيره عن محبته إذا أحب، وسريع السأم من أى شخص أو شىء يوحى بثقل الظل أو النفاق أو الغباء. لا أذكر أنى رأيته قط مرتديا شيئا غير الجلباب الأبيض الجميل، وهو ما يتفق تماما مع شخصيته وشجاعته، فهو لا يغير ملبسه مع تغيير المجالس.
كما وجدته دائما نحيفا جدا، رغم حبه الشديد للطعام الجيد، إذ يبدو أنه فى الطعام أيضا، لا يتناول إلا ما يستطيع تذوقه وهضمه.
إذ كان هذا هو رأيى فى أحمد فؤاد نجم، فكيف لا أسرع لمشاهدة فيلم «الفاجومى» الذى يروى سيرته، ويستوحى كتاب نجم نفسه فى سيرته الذاتية؟
●●●
تمتعت فى الفيلم بأشياء كثيرة، ولم أشعر خلاله بأى ملل ولو لدقيقة واحدة، وبعد انتهائه قلت لنفسى إنه كان لابد بالطبع من مشاهدته، ومع ذلك فقد أسفت أيضا لأشياء كثيرة، وعاد إلىّ شعورى القديم بخطورة تناول السينما لحياة العظماء.
الممثلون كلهم تقريبا، أدّوا أدوارهم بكفاءة عالية، فكلهم تقريبا زوو مواهب لا تنكر. خالد الصاوى (الذى قام بدور نجم) رائع كما هو دائما، وكذلك كان صلاح عبدالله فى دور الشيخ إمام، وكذلك الفنانات الأربع التى قمن بأدوار النساء فى حياة نجم، وعلى الأخص جيهان فاضل، التى أدت أداء رائعا. كما وجدت التصوير خلابا بما قدمه من مناظر الغرف البسيطة التى عاش فيها نجم، ومؤثرا للغاية فى استخدامه الصور الحقيقية للحشود الغفيرة التى اجتمعت لتوديع جمال عبدالناصر فى جنازته الشهيرة، أو للقيام بثورة 25 يناير. كان الفيلم ناجحا أيضا فى معظم استخداماته لأغانى الشيخ إمام.
كل هذا جيد، ولكن أسباب الأسف كثيرة أيضا، يمكن إيجازها فى عبارة قصيرة: الفيلم سطحى جدا، وحاول كسب الجمهور بأسهل الطرق، ولو على حساب إبراز جوانب الثورة الحقيقية فى حياة وشخصية أحمد فؤاد نجم.
لم يحاول كاتب سيناريو الفيلم (وهل أقول مؤلفه أيضا؟) أن يستخلص المغزى الحقيقى لظاهرة أحمد فؤاد نجم. فمشكلة أحمد فؤاد نجم (وعبقريته فى نفس الوقت) تكمن فى أنه رجل شريف وموهوب ويرفض السكوت عن قول الحق، مهما كانت الدعاية المكرسة لترويج الباطل، بل ومهما كان حجم الجماهير الغفيرة التى خُدعت بهذه الدعاية.
لهذا السبب يُسجن نجم (ورفيقه الشيخ إمام) فى كل العصور، الاشتراكية منها والرأسمالية، الديكتاتورية والمسماة بالديمقراطية، المعادية لإسرائيل والمهادنة لها. وهو رغم احتفال المثقفين به، وعلى الأخص اليساريين منهم، يستطيع أن يرى حجم الزيف الذى يحيط بسلوكهم، ويسخر من كلامهم المنمق الذى لا يتمشى بتاتا مع نمط حياتهم، ومن تهربهم من دفع ثمن هذا الكلام المنمق. الفيلم حاول (ولكنه فشل فى رأيى) أن يوضح هذا التناقض الذى رفض نجم الوقوع فيه، ومن ثم ظل يدفع ثمنا باهظا لهذا الرفض. كذلك فشل الفيلم، فى رأيى، فى إبراز المشكلة الحقيقية فى نظام عبدالناصر، والتى تمثلت فى التفاف الجماهير الغفيرة حوله مع حبهم الشديد له، وعجزه مع ذلك عن تلبية بعض مطالبهم الأساسية وأهمها الدفاع عن أرض الوطن. ظن صانعو الفيلم أن مثل هذه التناقضات يمكن أن تبرز بحوار سياسى قصير بين بعض شخصيات الفيلم فى غرفة مغلقة، بينما يتطلب الفيلم السينمائى أن تبرز هذه التناقضات بالصور والمواقف الدرامية.
ظن صانعو الفيلم أيضا أن من الضرورى استخدام الجنس والحب فى تسلية الجمهور، وإلاّ فشل الفيلم تجاريا. لم يكن هناك أى موجب فى رأىى لهذه المساحة الكبيرة التى خصصها الفيلم لعلاقات نجم العاطفية. لا موجب لها لا من الناحية الفنية ولا حتى من ناحية كسب الجمهور. الجمهور العاقل (فى أى مكان) كبير جدا، وأكبر مما تظن، وهو قادر على أن يميز بسهولة الغث من السمين، وقد كان من الممكن فى رأيى أن يحظى الفيلم بإعجاب أوسع بكثير، لو خفضت المساحة المخصصة للحب، من أجل إبراز المعانى الأخرى التى تزخر بها حياة أحمد فؤاد نجم.
ثم نأتى إلى ما فعله الفيلم بفكرتنا عن عظماء الرجال والنساء التى مثلت شخصياتهم فى الفيلم. إنى لا أستطيع أن أطالب خالد الصاوى بأن يخفض من وزنه حتى يصل إلى نحافة نجم، بل وأتردد حتى فى رفض أن يقوم ممثل قدير مثل خالد الصاوى بتمثيل شخصية نجم رغم اختلاف مظهرهما. ولكنى لا أستطيع أن أزعم أن الشخصية التى نقلها خالد الصاوى لمشاهدى الفيلم قريبة بدرجة كافية من شخصية نجم. وأظن أن الخطأ هنا ليس خطأ الممثل بقدر ما هو خطأ المخرج وكاتب السيناريو. وأظن أن مثل هذا حدث أيضا فى تصوير شخصية الشيخ إمام، إذ بدا الرجل خفيفا أكثر من اللازم، بل وبدا أحيانا وكأنه مهرج أكثر منه صاحب التزام سياسى.
إن قرار تصوير حياة أحمد فؤاد نجم فى فيلم سينمائى قد يكون قرارا مصيبا ولكنه مفعم بالمخاطر. فحياة نجم حياة ثرية ومليئة بالمواقف الدرامية والمثيرة للعديد من الأسئلة، التى تحتمل نقاشا مهما وواسعا، كما أن حياته غطّت عصورا شديدة التنوع وشهدت أحداثا بالغة الخطورة. ولكن هذا هو بالضبط ما يحمّل منتجى فيلم من هذا النوع مسئولية كبيرة.