أتذكر جيدا هذا اليوم الذى ألقى فيه عبدالناصر خطاب التنحى الشهير، وكلف فيه زكريا محيى الدين برئاسة الجمهورية.
(ملاحظة هامشية حتى فى هذه اللحظة العصيبة التى انتهت سياسات النظام إلى هزيمة مروعة، لم يترك رأس النظام للشعب الاختيار بل قرر نيابة عنه من يخلفه فى الرئاسة).
ما إن انتهى الخطاب حتى انطلقت فى سماء القاهرة أضواء طلقات المدافع المضادة للطائرات، وكان الوقت قد اقترب من المغرب، وهى المدافع التى لم يسمعها سكان القاهرة طوال أيام الحرب الأربعة السابقة، توالت الأخبار عقب الخطاب: استقالة المشير عبدالحكيم عامر القائد العام للقوات المسلحة واستقالة السيد شمس بدران وزير الحربية، لحظات بعد انتهاء الخطاب بدأت الجماهير تتدفق إلى الشوارع بأعداد قليلة سرعان ما تزايدت فامتلأت شوارع مصر بالملايين من المواطنين؛ انه المشهد الذى عبر عنه المخرج الكبير يوسف شاهين فى فيلم العصفور ببراعة، خرج الملايين يرفضون قرار الرئيس عبدالناصر بالتنحى ويطالبونه بالبقاء رئيسا للجمهورية، فى ظاهرة فريدة وغريبة لا أظنها تكررت فى التاريخ فى أى من بلدان العالم، فعندما تهزم قيادة سياسية وعسكرية فى معركة من المعارك أو حرب من الحروب لابد أن تترك الساحة لغيرها خاصة عندما تكون الهزيمة بحجم ما وقع فى يونيو ٦٧ لكن ما حدث فى مصر كان شيئا مختلفا، الشعب بدلا من أن يخرج إلى الشوارع مطالبا بمحاسبة المسئولين عن الهزيمة، يخرج ليطالب الرئيس المتنحى بالعودة إلى منصبه!
ما هى إلا ساعات قليلة وأعلن السيد زكريا محيى الدين اعتذاره عن عدم قبول المنصب، ويذيع الراديو والتليفزيون النبأ فى محاولة لتهدئة الملايين الهادرة فى الشوارع.
لقد اختلفت التفسيرات لمظاهرات 9 و10 يونيو رآها البعض عملا مدبرا من الاتحاد الاشتراكى العربى وتنظيمه الطليعى ومنظمة شبابه، ورآها آخرون تعبيرا تلقائيا عفويا عن رفض الشعب للهزيمة، وهللت لها النخبة السياسية باعتبارها هزيمة لمخطط العدو كأن هدف الحرب كان شخص عبدالناصر.
ومما لا شك فيه أن أعضاء الاتحاد الاشتراكى وتنظيماته المختلفة شاركوا بقوة فى هذه المظاهرات وربما وجهوا بعضها لكن الاتحاد الاشتراكى كان أضعف بكثير من أن يحرك هذه الملايين، ومن عاش اللحظة يدرك مدى هشاشة الاتحاد الاشتراكى وفساده، ويدرك تلقائية المظاهرات وعفويتها؛ فقد بدأت بعد لحظات من انتهاء خطاب الرئيس صغيرة وأخذت تتسع تدريجيا، وحتى تخرج المظاهرات بهذا الأسلوب كان لابد أن يعلم أعضاء الاتحاد الاشتراكى على مستوى الوحدات الأساسية بفحوى الخطاب مسبقا وهذا كان أمرا مستحيلا فى تقديرى فيحركوا الجماهير بهذا الاتساع وهذه السرعة، على الأقل فى اليوم الأول، لقد أحس الناس بوطأة الهزيمة وكانت مفاجأة للغالبية العظمى من المصريين، وفى ظل تغييب الناس لقرابة 13 سنة عن العمل السياسى وتشويه قيادة السياسية التاريخية، وفى ظل سيطرة دولة استبدادية بوليسية شمولية لا تسمح بحركة مستقلة للجماهير وتصادر حق التنظيم المستقل، لم يتصور الشعب أن هناك بديلا لزعيمه الأوحد الذى لا يعرف غيره منذ عام ٥٤ فبدلا من أن يحاسبه طالبه بالبقاء رغم الهزيمة التى قادت سياساته البلاد إليها.
لكن أهم ما فى مظاهرات 9 و10 يونيو 67 أنها أعادت الجماهير إلى الشارع بقوة، وإن الجماهير أحست بهذه القوة بالفعل، وظهرت النتيجة بعد أقل من عام عندما خرجت المظاهرات العمالية والطلابية فى فبراير 1968 تحتج على أحكام قادة سلاح الطيران الذين تم تحميلهم مسئولية الهزيمة، وتطالب بالديمقراطية.
استمرت المظاهرات منذ غروب شمس الجمعة 9 يونيو حتى ظهر السبت 10 يونيو 1967، عندما أُعلن أن جمال عبدالناصر سيتوجه إلى مجلس الأمة لإلقاء خطاب للجماهير يعلن فيه الرجوع عن قراره، لكن الجماهير فى الشوارع حالت بينه وبين الوصول إلى المجلس، فأرسل كلمته ليلقيها نيابة عنه رئيس المجلس حينذاك أنور السادات، وليحدث بعدها أغرب مشهد فى تاريخ المجالس النيابية عندما يقف بعض الأعضاء فى مجلس نيابى لبلد جريح يهللون ويرقصون فرحا للقرار ودماء شهدائنا لم تجف على رمال سيناء وجثامينهم لم تدفن بعد، تلقت صحف العالم الصورة مقارنة بينها وبين اجتماع الكنيست الذى جلس فيه الأعضاء منشغلين بمناقشة الوضع الجديد المترتب على احتلالهم لأراضى أربع دول عربية وعلى مساحات تفوق مساحة دولة إسرائيل عند تأسيسها سنة 1948، ليتساءل العالم من المنتصر ومن المهزوم.
لقد كانت الهزيمة مفاجأة مروعة لنا لأننا كنا شعبا مغيبا مبعدا عن المشاركة فى تحديد مصائره، يعيش تحت وصاية حكامه، لكنها لم تكن مفاجأة لأى متابع واع بما يحدث فى مصر، لقد وقعت الهزيمة فى يونيو 67 نتيجة لسياسات استمرت لسنوات سابقة عليها، نتيجة لغياب الديمقراطية لأنه لا يمكن أن ينتصر نظام استبدادى قمعى صادر حريات المواطنين ومبادرتهم مصادرة كاملة فالشعوب المقهورة مسلوبة الحرية والإرادة لا يمكن أن تنتصر؛ وقد سلب نظام يوليو الشعب المصرى إرادته وصادر حرياته الأساسية التى ناضل من أجلها طوال قرن ونصف. كنا نعيش منذ عام 1952 فى ظل قمع بوليسى يزج فيه المعارضون فى السجون ويتعرضون للتعذيب ويموت منهم من يموت دون حساب، لذلك لم يكن من الممكن أو الوارد أن ننتصر، تم الزج بالجيش فى آتون السياسة وفى كل تفاصيل الحياة المصرية حتى كرة القدم، كان المشير عبدالحكيم عامر منشغلا بأمور الكرة أكثر من أمور الحرب والقتال، وقد روى الفريق أول عبدالمحسن كامل مرتجى فى البرنامج الوثائقى بمناسبة مئوية الأهلى قصة تكليفه برئاسة النادى للمرة الأولى سنة 1965، أثناء الأزمة التى تدهور فيها مستوى فريق كرة القدم بالأهلى حتى بات مهددا بالهبوط لدورى الدرجة الثانية، فقال إن المشير عامر زاره فى مقر القيادة حيث كان قائدا للقوات البرية، وطلب منه أن يصحبه إلى منزله فى الجيزة، وفى الطريق مرا على النادى الأهلى وقال له: من بكره أنت رئيس النادى، فرد بأن محافظ القاهرة صلاح الدسوقى رئيسا للنادى، أبلغه المشير بأنه سيترك المنصب له، فقال له إن مسئولياته فى الجيش تحول بينه وبين رئاسة النادى، فكان رد المشير إن هذه أوامر الريس لإنقاذ النادى الأهلى من الهبوط! فى نفس الوقت كان قائد الطيران رئيسا لنادى الطيران وقائد البحرية رئيسا للنادى الأولمبى، والقيادة مشغولة بمستقبل الكرة، فهل كان الانتصار ممكنا؟