فى فجر يوم 21 أكتوبر سنة 1965 تحديدا الساعة 3:45 صباحا بتوقيت كاليفورنيا تلقى العالم الفيزيائى ريتشارد فاينمان مكالمة هاتفية ظنها فى البداية أنها مقلب من أحد زملائه أو طلابه فأغلق الهاتف. لكن لما تكرر الأمر مرة ثانية ثم ثالثة شعر أن الموضوع جدى. كانت تلك هى المكالمة التى تبلغه أنه فاز بجائزة نوبل فى الفيزياء. طبعا من يتلقى اتصالا كهذا قد يموت فرحا وزهوا ويبدأ يفكر كيف سيتصنع التواضع، لكن رد فاينمان كان مفاجأة لمحدثه لأنه سأله إن كان من الممكن أن يرفض الجائزة لأن كل من يصبح مشهورا سيقضى بقية عمره فى أحاديث تليفزيونية ودعوات لإلقاء محاضرات ولن يجد الوقت الكافى للبحث العلمى ولا التدريس. لم يقتنع فاينمان بقبول جائرة نوبل إلا بعد أن أخبره محدثه أن رفض جائزة نوبل سيجعله أكثر شهرة من قبولها. مقالنا اليوم عن هذا العالم الفذ ريتشارد فيليبس فاينمان، ولكن ليس عن حياته أو أبحاثه، ولكن لنتأمل بعض مقولاته فى العلم والتعليم.

قال فاينمان وعاش حياته العلمية تبعا لمقولة إن هناك فارقا كبيرا بين معرفة الشىء ومعرفة اسم الشىء. التعليم التلقينى خاصة فى التخصصات العلمية كارثة بكل المقاييس على مستقبل أى دولة، من السهل أن تحكى للطالب عن الطاقة الكهربائية مثلا وتأثيرها واستخداماتها لكن إذا سألته عن تعريف الطاقة وما هى فلن يعرف، بل سيعطيك إجابة متمثلة فى تلك الأمثلة التى لقنته إياها. يجب دائما أن يحاول الأستاذ شرح ليس فقط المعادلة أو الحقيقة العلمية لكن السبب ورائها ولماذا هى هكذا وقد يفيد إعطاء نبذة تاريخية عن تلك المعلومة وكيف اكتُشفت. العلم مهم، ولكن كيفية الوصول للعلم قد يكون أهم. قد يقول قائل لكن هذا سيضيع قتا كبيرا وقد لا ننتهى من المنهج المحدد. إذا كان ذلك كذلك فهذا معناه أن المنهج وُضع بالكم وليس بالكيف، من المفيد ترك نصف المنهج مع تعلم النصف الآخر بعمق عن تلقين الطالب كما كبيرا بدون عمق. هذا طبعا يستلزم تغييرات كبيرة فى المناهج التعليمية من السنين الأولى فى المدرسة وحتى مرحلة البكالوريوس فى الجامعة وذلك حتى نتخلص من جمل كريهة مثل «يجب أن نلتزم بكتاب الوزارة وأخطائه» أو «المهم يجيب مجموع وبعدين نشوف» أو «إيه الكمية القليلة دى من المعلومات، المنهج ضعيف». إذا أردت أن تعرف كيف يكون الكتاب المدرسى أو الجامعى عميقا لكن فى الوقت نفسه شائق وسلس ولا يعتمد على الكم فعليك بمجلدات (Feynman Lectures on Physics).

من مقولات فاينمان الجميلة هى وصفته كى تتعلم أى شىء، بعد أن تقرأ عن هذا الشىء وتفكر فيه وتظن أنك أصبحت تعرفه فعليك أن توقف أى شخص فى الشارع أو من أصدقائك الذى لا يعلمون شيئا عن هذا الذى تعلمته وتشرحه لهم. إذا لم تستطع إفهامهم فهذا معناه أنك لم تصل بعد إلى العمق الكافى فى تلك المادة العلمية وعليك بمراجعتها مرة أخرى بعمق أكبر. من الذكريات الطريفة أن أثناء دراستى للدكتوراه فى جامعة ميريلاند كانت هناك مسابقة سنوية لطلبة الدكتوراه من جميع الأقسام، كطالب دكتوراه أمامك نحو ربع ساعة لتشرح بحثك الذى تعمل فيه للدكتوراه أمام لجنة من الأساتذة من تخصصات أخرى، فمثلا لو كنت تعمل فى تخصص هندسة الحاسبات قد تكون اللجنة مكونة من أساتذة من قسم الكيمياء وآخر من قسم الفيزياء، بل وقد تجد أستاذا من قسم الفلسفة مثلا. هذه المسابقة تدربك على كيفية تبسيط المعلومة ولن تتمكن من تبسيطها ما لم تفهمها جيدا.

النقطة الأخرى الواضحة جدا فى شخصية فاينمان هى الفكاهة، عندما يلقى محاضرة سواء فى مؤتمر أو فى قاعات الدرس فإنه يتمتع بحس فكاهى كبير ويمكنك أن تشاهد ذلك بنفسك فى كثير من محاضراته على اليوتيوب، الفكاهة من أهم وسائل التعليم وتوصيل المعلومة. هناك باحثة فى قسم علم النفس فى الجامعة التى يعمل بها كاتب هذه السطور رسالتها للدكتوراه هى الفكاهة فى قاعات الدرس، وكانت تطلب من الأساتذة من تخصصات مختلفة أن تحضر بعض محاضراتهم كى ترى كيف يستخدمون الفكاهة فى التدريس، كان ذلك منذ أكثر من عشر سنوات فلابد أنها تخرجت الآن.
ماذا نستفيد من كل هذا؟ نحن فى وقت أشد ما نحتاج فيه فى مصر إلى أساتذة تحب وتبجل وتبرع فى التدريس ولها قدرة على ربطه بالبحث العلمى. ريتشارد فاينمان مثال ممتاز لمن يعشق التدريس ويعشق البحث العلمى وهذا العشق تغذيه الرغبة فى نقل المعرفة والرغبة فى سبر أغوار الطبيعة، وليس الرغبة فى الترقية أو «المنظرة».