كان كل شىء مدهشا فى تشكيل الحكومة الجديدة فى مصر. بدأت الدهشة عندما تأخر إعلان اسم رئيس الوزراء أكثر من شهر بعد فوز الدكتور محمد مرسى برئاسة الجمهورية. فلماذا يجد رئيس الجمهورية الجديد اختيار رئيس الوزراء أمرا بهذه الصعوبة؟ هل مصر فقيرة إلى هذه الدرجة فى الرجال الأكفاء والمخلصين؟ لا يمكن أن يكون هذا هو السبب. فهل هو قلة خبرة الرئيس الجديد فى العمل السياسى وقلة معرفته بمن يصلح ومن لا يصلح رئيسا للوزراء؟ لا يمكن أن يكون من هذا أيضا، فالدكتور مرسى رجل له تاريخ سياسى عتيد، ويأتى من حزب الحرية والعدالة، وهو حزب الإخوان المسلمين، وهم جماعة لها تاريخ فى العمل السياسى يزيد على ثمانين عاما، ولا بد أن لديهم طقما كاملا من الرجال الصالحين لتولى مثل هذا المنصب وغيره، والمعروفين معرفة كاملة لكبار المسئولين فى الجماعة والحزب، بحكم التنظيم الصارم والدقيق الذى تتبعه الجماعة منذ نشأتها.
لابد إذن أن يكون رئيس الجمهورية وحزبه وجماعته خاضعين لقيود وضغوط لا يُسمح لنا بمعرفتها. فمن أين يا ترى تأتى هذه القيود والضغوط؟ من الخارج أم من الداخل؟ فإذا كانت الضغوط من الخارج فهل لها علاقة بالزيارات المتعددة التى قام بها مسئولون أمريكيون كبار لمصر، التقوا خلالها بكبار المسئولين فى مصر، بمن فى ذلك كبار المسئولين فى الجماعة والحزب؟ وإذا كانت الضغوط داخلية، فهل هناك هيئة قادرة على فرض مثل هذه الضغوط فى مصر ــ فى الوقت الحاضر ــ غير المجلس الأعلى للقوات المسلحة؟ وإذا كان هناك مثل هذه الضغوط، فلماذا يا ترى تأخرت الاستجابة لها إلى أكثر من شهر ولم تتم الاستجابة لها فورا؟ لا بد أن الضغوط ليست بالضبط فى الاتجاه الذى يرضى عنه الرئيس الجديد وحزبه وجماعته. ففيم الخلاف يا ترى؟ وأى الطرفين أقرب فى موقفه إلى تحقيق المصلحة الوطنية؟ الذى يفرض الضغوط أم الذى يقاومها؟ وهل الخلاف يا ترى يتعلق بعلاقات مصر الخارجية أو بصراع القوى الداخلية، وأقصد بالقوى الداخلية: النظام السابق (الذى حاول الثوار إسقاطه) وفلوله، والثوار أنفسهم، والمؤسسة العسكرية، والرأى العام فى مصر، بما فى ذلك موقف جماعة الإخوان المسلمين ومواقف الأقباط والسلفيين والعلمانيين والليبراليين ...الخ؟
كان لا بد أن يحاول أحد الاعتذار عن هذا التأخير فى تشكيل الحكومة الجديدة، وتقديم سبب أو آخر، إذ لا يكفى مجرد الإعلان عن قرب التشكيل ثم تأجيله المرة بعد الأخرى وقد تفتق الذهن عن القول بأن الوقت عصيب، ومشكلات مصر كثيرة ومعقدة، وقديمة العهد، ويقصد بذلك أنه لا بد، والحال كذلك، من التأنى والصبر، إذ قد يأتى الاستعجال بنتائج غير محمودة. أضافوا إلى ذلك القول بأن الحكومة الجديدة سوف يتم اختيارها من «التكنوقراط». فهل كان هذا نوعا من تصبير المصريين بأن الحكومة الجديدة لن تتكون من «سياسيين»، بالنظر إلى أن السياسيين هم سبب ما لحق بالأحوال فى مصر من تدهور، ومن ثم سنأتى بـ«التكنوقراط» الذى يفهمون جيدا فى مجالات تخصصهم، ولن يضيعوا الوقت فى خلافات أو مناقشات سياسية عقيمة.
والحقيقة أنى لم أشعر بأى ارتياح لاستخدام وصف «التكنوقراط» فى هذه المناسبة. فهل السبب فى تراكم مشكلات مصر أن المسئولين كانوا «سياسيين»، بينما الحاجة هى إلى تكنوقراط، أم أن المسئولين خلال الثلاثين أو الأربعين عاما الماضية كانوا سياسيين من نوع معين، المطلوب الآن تغييره؟ إن «التكنوقراط» تعبير يقصد به أشخاص ينفذون سياسات وضعها غيرهم، ولا يهتمون كثيرا أو قليلا بمدى صلاحية هذه السياسات، بل يطبقونها كما ترد إليهم، فهل يا ترى حل مشكلات الاقتصاد والتعليم والصحة والإسكان والسياسة الخارجية ...الخ، يحتاج إلى مجرد تطبيق «سياسات موضوعة سلفا»، وإلى موظفين ينفذون بكفاءة ما يرد إليهم من تعليمات، أم أن الأمور تحتاج فى كل هذه المجالات وغيرها إلى علاج جذرى يقوم على رؤية سياسية جديدة للأمور؟ وإذا كان المطلوب الآن هو مجرد حكومة «تكنوقراط»، فهل لهذا قامت ثورة مليونية عظيمة فى 25 يناير، وهل لهذا طالب الناس «بتغيير النظام»؟ هل كان المقصود بتغيير النظام إحلال تكنوقراط جدد محل تكنوقراط قدامى؟
على أى حال فلا يمكن أن يكون هذا الاتجاه إلى تشكيل «حكومة تكنوقراط» هو سبب كل هذا التأخير فى تشكيلها. فالتكنوقراط فى مصر كثيرون أيضا، بل أكثر من غير التكنوقراط، والوزارات مملوءة بالموظفين المستعدين لتنفيذ أوامر وسياسات وضعها غيرهم. فما كل هذه الحيرة فى الاختيار؟ أم أن للحيرة أسبابا أخرى؟
•••
بعد فترة انتظار طويلة أعلن اسم رئيس الوزراء الجديد، فكان هذا الإعلان مدهشا بدوره، دهشة لا تقل عن الدهشة من كل هذا التأخير. فرئيس الوزراء الجديد رجل لا يعرفه كثيرون من الناس، وقد كان وزيرا لم يستلفت النظر فى الحكومة السابقة مباشرة. إنه متحصص فى مشكلات الرى والصرف، وفى مصر مشكلات كثيرة فى الرى والصرف أيضا، أهمها بالطبع مشكلة التهديد الذى تمثله مشروعات جديدة فى دول أفريقية لاستمرار حصول مصر على حصتها من مياه النيل. ولكن هل هذه مشكلة فنية يحلها رجل من «التكنوقراط»، أم مشكلة سياسية من الطراز الأول لا يحلها إلا رجال ذوو رؤية سياسية شاملة وقدرة على اتخاذ مواقف حازمة، وشجاعة فى مواجهة القوى المعادية فى الخارج والداخل؟ لا يكفى إذن أن يكون رئيس الوزراء الجديد متخصصا فى الرى، بل ليست هناك ضرورة لهذا التخصص على الإطلاق لحل هذه المشكلة. لابد إذن أن الاختيار كان وراءه سبب آخر.
الرجل له لحية خفيفة، ليست بكثافة لحية رئيس الجمهورية ولكنها موجودة على أى حال، مما قد يفهم منه أنه «متعاطف» مع جماعة الإخوان دون أن يكون بالضرورة واحدا منهم. ولكن كل هذه الاستنتاجات والتخمينات لا فائدة منها فيما نحن فيه. إذ سواء كنت من الإخوان أو لم تكن، متعاطفا معهم أو غير متعاطف، فليس فى هذا أى دليل على قدرتك على مواجهة مشكلات مصر الراهنة، وعلى مدى حزمك وشجاعتك فى هذه المواجهة. ولم يستطع أى خبر منشور عن رئيس الوزراء الجديد أو عن تاريخه القريب أو البعيد أن يدلنا على أى شىء واضح فى هذا الأمر.
•••
ثم أعلنت أسماء الوزراء، فيالها من حكومة! بعض الوزراء، وفى وزارات مهمة كالخارجية والمالية مثلا، كانوا وزراء فى الحكومة السابقة مباشرة، وبعضهم كانوا مديرين لمكاتب وزراء فى هذه الحكومة السابقة، أوبمثابة مديرى المكاتب. وكثيرون منهم شخصيات مجهولة للكافة، وليس من بينهم وزير واحد عرف أنه صاحب روية فى السياسة، سواء فيما يتعلق بمشكلة التنمية أو توزيع الدخل أو الأمن، أو مشكلة الأقباط، أو مشكلة فلسطين وإسرائيل أو العلاقة مع الولايات المتحدة أو العلاقة العربية...الخ.
هل المفروض إذن أن نبدأ عهدا «ثوريا» جديدا، بعد مجىء أول رئيس للجمهورية بانتخابات حرة فى التاريخ المصرى، بهذا النوع من الحكومة؟ حكومة لا طعم لها ولا لون، رئيسها وأعضاؤها لا يعرف لهم اعتناق أى مبدأ سياسى، أو أنهم دافعوا بقوة عن موقف سياسى ضد آخر. لا بد إذن أن يكون الأمر مقصودا، إذ إن الذى حدث كان مخالفا لأى توقعات معقولة. فما هو هذا الشىء المقصود يا ترى؟
ليس من السهل فى ظل غرابة الوضع السائد الآن فى مصر وفى المنطقة، أن نخمن ما هو المقصود بالضبط، سوى أن نقول شيئا بسيطا وإن كان لا يشفى الغليل.
المقصود هو حكومة تنفيذ الأمر بلا مناقشة، أو بأقل قدر من المناقشة، فهذه حكومة «مديرى مكاتب»، وليست حكومة سياسيين ولا حتى حكومة «تكنوقراط».
ومديرو المكاتب هم الذى يعرفون بالضبط أن مهمتهم لا تتجاوز ما يريده رئيسهم، وإلا كانوا فاشلين كمديرى مكاتب. ولكننا فى هذه الحالة لا نعرف حتى ما الذى يريده الرئيس، وما إذا كان هو رئيس الجمهورية أم شخص غيره، فلا نستطيع حتى تخمين ما سوف يكون على مديرى المكاتب تنفيذه. بل ولا أظن أن معظمهم، هم أنفسهم، يعرفون ممن ستأتى الأوامر.