بعد نجاح ثورة 25 يناير فى الإطاحة برأس النظام، أصبحت قضية الدستور على رأس الأولويات، فكثير من القضايا التى ثار من أجلها الشعب ترتبط بالدستور، وفى مقدمتها الحريات والحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية التى عبرت عنها شعارات الثورة «عيش.. كرامة.. حرية.. عدالة اجتماعية»، فتحقيق هذه الشعارات رهن بدستور جديد، ينهى سنوات الاستبداد السياسى، ويحافظ على كرامة المصريين، ويصون الحريات ويحمى الحقوق، وينظم ضمان الدولة لتحقيق العدالة الاجتماعية.
للشعب المصرى تاريخ طويل مع النضال من أجل دستور يحقق طموح المصريين فى وطن ينعمون فيه بالحرية والكرامة ويتمكنون من الرقابة على الحكومة التى يفوضونها فى إدارة أمورهم.
وإذا كان الدستور ببساطة عقد بين أطراف المجتمع، ينظم علاقة الحاكم بالمحكوم، ويقيد السلطات المطلقة للحاكم التى عرفتها المجتمعات الإنسانية فى العصور الوسطى، ويحدد العلاقة بين سلطات الدولة ومؤسساتها، فإن الشعب المصرى نجح للمرة الأولى فى وضع قيود على السلطة المطلقة لحكامه فى أواخر القرن الثامن عشر؛ ففى يوليو سنة 1795 وصلت حالة السخط عند الشعب إلى ذروتها وأدى السخط إلى انفجار الثورة ضد بكوات المماليك فى مصر، الذين كانوا يشاركون الباشا العثمانى فى إدارة البلاد، وكان السبب وراء تفجر الأحداث كما يذكر المؤرخ عبد الرحمن الجبرتى، الجبايات التى فرضها الأمير محمد بك الألفى وأتباعه على قرية من قرى الشرقية فتوجه أهالى القرية إلى الشيخ الشرقاوى شيخ الجامع الأزهر وشكوا له. وعندما عرض الشيخ الشرقاوى الأمر على مراد بك وإبراهيم بك، وكانا فى ذلك الوقت يتحكمان فى أمر الديار المصرية لم يبديا حراكاً، فغضب الشيخ وجمع شيوخ الأزهر وطلابه داخل الجامع وأغلق أبوابه واعتصم به، وفى اليوم التالى أغلقت الأسواق والمحال التجارية أبوابها وتجمع أهالى القاهرة فى مظاهرات صاخبة فى الشوارع، واستمرت ثورة القاهرة ثلاثة أيام بلياليها، وكانت مطالب الثائرين وزعمائهم من الشيوخ، إبطال الضرائب غير الشرعية، والتى كانت تعرف باسم المكوس، ورفع الظلم والجور عن البلاد، وعزل الكشاف الجائرين وصرف الجوامك والجرايات والعلوفات المتأخرة وهى رواتب الشيوخ والمستحقين فى الأوقاف والطلاب الدارسين فى الأزهر.
وقد أسفرت ثورة يوليو سنة 1795 فى القاهرة بقيادة المشايخ والفقهاء وعلى رأسهم الشيخ عبد الله الشرقاوى شيخ المشايخ بالجامع الأزهر الشريف عن خضوع أمراء المماليك لمعظم مطالب الثوار. بل لقد أرغم الشيوخ الأمراء على التوقيع على وثيقة يتعهدون فيها برفع المظالم، وعدم العودة إليها مرة أخرى، وقد وصف بعض الباحثين تلك الوثيقة بأنها «ماجنا كارتا» مصرية تشبيهاً لها بالعهد الأعظم الذى فرض على ملوك إنجلترا الالتزام بنظام دستورى.
وقد وصلتنا هذه الوثيقة التى حررت فى 27 من ذى الحجة سنة 1209 هجرية الموافق 15 يوليو سنة 1795 ميلادية مسجلة فى سجلات الديوان العالى وجاء فيها: «توافق كل من ساداتنا أرباب السجاجيد وساداتنا علماء الإسلام مصابيح الظلام، متع الله بوجودهم الأنام، مع كامل الأمراء الكرام على تنزيل جوامك المسلمين المطلوبة من المال الميرى، وإجراء جرايات المستحقين، وعلوفات الفقراء والمساكين وإجراء منورية الجامع الأزهر، ومحفل العلم الشريف الأنور، وجراياته، من وقفه الخاص به ولا يؤخذ له شىء من المكوس والمظالم ومنع التفاريد على البلاد والرعايا والفقراء، ومنع ترك الكشاف الجائرة فى بلاد الله التى خربوها ونهبوها ودمروها، وأن ترفع المكوس الجارية فى البنادر والموارد وما جعل على المآكل والمشارب، وإزالة جميع الحوادث والمظالم من جميع الأقطار المصرية، والتزموا ألا يتعرض أحد منهم إلى السادة الأشراف القاطنين بجميع البلاد لا بشكوى ولا بأذية، ولا بضرر ولا بوجه من الوجوه، وأن ينتهى أمرهم فى حوادثهم الخاصة بهم إلى أفنديهم ونقيبهم فى سائر الأقطار والأزمان، وألا يتعرض أحد منهم لنواب الشريعة المحمدية بوجه يضر بهم، وأن ينتهى أمرهم فى كامل حوادثهم المتعلقة بهم، إلى أفنديهم مولانا شيخ الإسلام قاضى عسكر أفندى بمصر فى جميع الأزمان، فأجابوا حضرة الأمراء الكرام بالسمع والطاعة وعدم مخالفة الجماعة، وأن يبطلوا هذه المظالم الحادثة، التى أضرت بالإسلام والمسلمين وأبادت أموال الفقراء والمساكين وحصل فيها الضعف والجور المبين، وامتثلوا جميعاً ما طلب منهم وأشير له عليهم وعاهدوا الله سبحانه وتعالى على ألا يعودوا إلى تلك الأفعال، وكل من خالف ذلك، أو سعى فى إبطال شىء من ذلك، فيكون على ساداتنا أرباب السجاجيد وعلماء الإسلام والأمراء قهره واستخلاص كامل ما هو مطلوب منه لأربابه كائن من كان».
رغم بساطة هذه الحجة الشرعية وبعدها عن الأسلوب التقليدى للدساتير الحديثة، التى تصاغ فى شكل مواد متتابعة، ورغم أن المفجر للثورة والدافع لتحرير الوثيقة مطالب اقتصادية تتعلق بمعاش الناس، أو ما نسميه بلغة اليوم: مطالب فئوية، إلا أن هذه الوثيقة تتضمن عدة أمور دفعت بعض المؤرخين إلى التعامل معها باعتبارها تحمل الإرهاصات الأولى لفكرة التزام الحاكم أمام المحكومين، وهذا جوهر فكرة الدستور، فقد صيغت الحجة الشرعية أو الوثيقة كعقد اتفاق بين المشايخ باعتبارهم ممثلين للشعب وبين كبار الأمراء الذين يديرون أمور البلاد، ودونت لدى أعلى سلطة قضائية إدارية فى ذلك الوقت، وتضمنت الوثيقة كذلك تعهدات من الأمراء بإنهاء أسباب الشكوى، وعدم تكرارها مرة أخرى، كما جعلت من العلماء والشيوخ رقباء على التزام الحكام بهذه الشروط وأشركتهم فى المسئولية عن استخلاص حقوق الناس.
ورغم أن المظالم عادت مرة أخرى، إلا أن المصريين كانوا قد اكتسبوا خبرة جديدة فى مواجهتهم لحكامهم، فشهدت السنوات الخمس الأولى من القرن التاسع عشر حالة من الثورة المستمرة ضد الباشاوات العثمانيين والأمراء من المماليك، وانتهت هذه الحالة بانتزاع المصريين، ولو لمرة واحدة، حقهم فى اختيار حاكمهم، وفرضوا على السلطان العثمانى اختيارهم لمحمد على حاكما لولاية مصر، كما ألزموا الباشا الجديد بشروط كان عليه أن يلتزم بها فى إدارة أمور البلاد، حقا إن هذه التجربة المبكرة فى فرض الشعب لشروطه على حكامه، وتدوين هذه الشروط فى وثائق مكتوبة، لم يقدر لها النجاح، إلا أنها كانت تجربة مبكرة فى النضال الدستوري، وكانت الخطوة الأولى فى طريق طويل لم ينته بعد.