فى التعليقات التى تلت أحداث 30 يونية، من خروج ملايين المصريين للمطالبة بسقوط حكم الإخوان، إلى تدخل القيادة العسكرية بإسقاط حكم الإخوان بالفعل، إلى خروج أعداد غفيرة من الإخوان للاحتجاج على إسقاط رئيسهم، وقيامهم بالاعتصام وتهديدهم الأمن، والاشتباك مع الشرطة ومؤيدى التدخل العسكرى.. إلخ، لاحظت تكرر التعبير عن موقفين لم أشعر بالارتياح نحو أى منهما:
الموقف الأول هو ذرف الدموع على الديمقراطية الضائعة، والتحسر على الخروج على الشرعية التى عبّرت عنها صناديق الانتخاب، وأتت بالإخوان المسلمين إلى الحكم، والتحذير من مغية رجوع العسكر إلى الحكم، وكأننا بذلك لم نقم بثورة على الإطلاق فى 25 يناير، فيعود إلى حكمنا رجال من الجيش، هم امتداد لحكم الرؤساء الضباط من جمال عبدالناصر، إلى السادات إلى مبارك.
كان هذا موقف جماعة الإخوان المسملين نفسها والمتعاطفين معها. فحكم الإخوان، ما دام قد جاء بالاحتكام إلى صناديق الانتخاب، لا يجب أن يسقط (طبقا لهذا الموقف) إلا بالاحتكام مرة أخرى إلى صناديق الانتخاب. والذى أسقط حكم الإخوان (طبقا لهؤلاء أيضا) لم يكن ثورة بل انقلاب عسكرى، ينطبق عليه ما ينطبق على كل الانقلابات العسكرية من أوصاف سيئة: استخدم القوة لفرض إرادة أخرى غير إرادة الشعب، وإقامة حكم دكتاتورى لا نعرف متى ينتهى.
ولكنى لاحظت أيضا قلقا مشابها حتى من جانب كثيرين من الساخطين على حكم الإخوان (وهذا هو الموقف الثانى). إنهم فرحون بسقوط الإخوان ولكنهم يتوجسون بعض الشر من طريقة إسقاطه. هؤلاء يشعرون بالامتنان فى داخل أنفسهم للجيش، لتخليصهم من كابوس الحكم الإخوانى، ولكنهم يتمنون لو أكمل الجيش جميله وانصرف مشكورا بعد أن قام بهذه المهمة. هؤلاء يشعرون ببعض الخجل من فرحهم بإجراء «غير ديمقراطى»، ويخشون أيضا أن يكون هذا الانقلاب الحميد بداية لدكتاتورية غير حميدة، قرأت لبعض هؤلاء مقالات تنتهى بالمعنى الآتى: «يسقط حكم المرشد، ويسقط أيضا حكم العسكر».
عندما سألت نفسى عن سبب عدم ارتياحى لكلا الموقفين، رجحت أن السبب هو أن كلا من الموقفين يعكس من ناحية ثقة زائدة بقدرة صناديق الانتخاب على التعبير الحقيقى عن إرادة الناس ومصالحهم، واعتقادا خاطئا، من ناحية أخرى، بأن إمساك بعض العسكريين بمقاليد الحكم يتعارض دائما مع مصالح الناس. ثقة مفرطة من ناحية، بما يسمى بالديمقراطية، لمجرد استخدام صناديق الانتخاب، ورفض عام، من ناحية أخرى، لأى حكم يسمى بالحكم العسكرى، لمجرد وجود ضابط أو مجموعة من الضباط على رأسه.
•••
دعونا نتأمل التجربة المصرية خلال المائة عام الماضية لنحكم بما إذا كان من المبرر أن نمنح كل هذه الثقة لما يسمى بالنظام الديمقراطى، وأن نتخذ موقف الرفض التام لأى حكم يسمى بالحكم العسكرى.
دعنى أولا أذكر القراء بأنه عندما قام الانقلاب العسكرى فى 23 يوليو 1952، استقبل هذا الانقلاب بتأييد شعبى كاسح، وفرح غامر من جانب الأغلبية العظمى من المصريين. لم تزرف غالبية المصريين أى دموع على تأجيل الانتخابات وحل الأحزاب، إذا كان سخط المصريين قد بلغ قمته قبيل هذا الانقلاب على فساد الأحزاب التى كان يسيطر على معظمها حفنة قليلة من الإقطاعيين ويأس أى حزب آخر من الوصول إلى الحكم فى ظل ملك فاسد واحتلال بريطانى.
استمر «حكم العسكر»، محبوبا ويتمتع بشعبية كبيرة لمدة عشرة أعوام على الأقل. ثم تلقى حكم العسكر بعد ذلك ضربات متتالية من الخارج أضعفته وأنهكت قواه، من الانقلاب السورى الذى أسقط الوحدة المصرية السورية، إلى حرب اليمن التى أنهكت الاقتصاد المصرى، وانتهت بضربة 1967 القاصمة. وقد أدت هذه الضربات الخارجية إلى اشتداد قبضة العسكر على الحكم فى الداخل، وازدياد وطأة الدولة البوليسية (خوفا من أن ينتهز المعارضون فى الداخل فرصة الضربات الخارجية) مما أفقد حكم العسكر جزءا كبيرا مما كان له من شعبية.
هل أحتاج أيضا إلى أن أبين للقارئ إلى أى مدى كانت الديمقراطية مزيفة فى عهد أنور السادات ثم فى عهد حسنى مبارك رغم كل ما أجرى خلالها من انتخابات واستثناءات؟
نعم كان كل من السادات وحسنى مبارك رجلا عسكريا، ولكن هل كان لهذا أى أثر مهم على زيف الديمقراطية فى عهدهما.
•••
فى ثورة يناير 2011، رحب الناس ترحيبا شديدا بتدخل الجيش لإسقاط حكم مبارك، وارتفعت آمال الناس فى الحصول على حكم ديمقراطى حقيقى. فهل الذى أفسد الديمقراطية خلال السنة ونصف السنة التالية لسقوط حسنى مبارك هو أن المجلس الذى كان يحكم مصر فى تلك الفترة، حكمها «حكما عسكريا»؟ فلماذا إذن استمر الفشل فى تحقيق مصالح الناس فى السنة التالية، بعد أن أتت صناديق الانتخاب بحكم الإخوان، وقام الرئيس الإخوانى بتنحية العسكريين عن الحكم؟
•••
الواضح إذن أنه لا صناديق الانتخاب، ولا تنحية العسكر يضمن لنا الحصول إلى ديمقراطية حقيقية، إلى نظام سياسى يعبر عن مصالح الناس وآمالهم.
إن الذى يفسد النظام السياسى فى مصر، واستمر يفسده طوال المائة عام الماضية، ليس عدم الالتجاء إلى صناديق الانتخاب، ولا تولى العسكر الحكم بين حين وآخر، وإنما الذى أفسد النظام السياسى فى مصر ومازال يفسده شيئان آخران. الأول: نظام اجتماعى ظالم، والثانى تبعية لإرادة خارجية.
أما النظام الاجتماعى الظالم فقد أفسد ما كان يسمى بالديمقراطية فى العهد الملكى، وما كان يسمى بالديمقراطية فى عهد السادات ثم عهد مبارك، وهو الذى سمح للإخوان المسلمين بممارسة القهر مسلحين بتوزيع العطايا والمؤن على شعب فقير ومظلوم، وبدعاية تُلبس أى إجراء قهرى عباءة الدين.
ولكن التبعية للخارج أفسدت بدورها ما يسمى بالديمقراطية فى كل هذه العهود. فقد كان النظام الملكى مستندا ليس فقط إلى نظام اقطاعى ظالم، ولكن أيضا إلى سلطة الاحتلال الإنجليزى، ونظام السادات ومبارك كان مستندا ليس فقط إلى زواج السلطة بالمال، ولكن أيضا إلى الدعم الأمريكى.
والذى منع إصلاح النظام السياسى المصرى بعد ثورة نجحت فى إسقاط رأس النظام فى 25 يناير 2011، ليس فقط عدم اتخاذ أى خطوة لإصلاح النظام الاجتماعى، ولكن استمرار التبعية للإرادة الخارجية.
يؤيد هذا الاستنتاج أن التقدير الواسع الذى تتمتع به التجربة الناصرية بين المصريين حتى الآن، هو سعيها ونجاحها إلى حد كبير لفترة من الزمن فى التخلص من هذين الداءين: النظام الاجتماعى الظالم والتبعية للإرادة الخارجية، قبل أن تصنع نكبة 1967 نهاية مأساوية للسعى فى كلا الاتجاهين، فأصبحت الناصرية مجرد ذكرى لتجربة واعدة، لم يكتب لها الاستمرار.
دعونا إذن نعلق الآمال فى 2013، فى تحقيق نظام سياسى صالح، ليس على مجرد العودة إلى صناديق الانتخاب، ولا على مجرد التخلص مما يسمى بحكم العسكر، بل على النجاح فى إقامة نظام اجتماعى عادل، والتخلص من التبعية لإرادة خارجية.