ربما كانت زيارة الشهبانو فرح ديبا، إمبراطورة ايران السابقة، للقاهرة مؤخرا، هى التى دفعت إلى الذاكرة تجربة زوجها الشاه الراحل فى صياغة المجتمع والدولة الإيرانيين على مقاسه، طوال عقدين من الزمان، وأوحت بتأمل مآلات تلك التجربة، و دروسها، سيما وأن هذه الزيارة جاءت فى وقت انشغال المصريين بدعوة رئيس الجمهورية لنشر حالة فوبيا من سقوط الدولة، وصولا بالطبع إلى صياغة مصر وفقا لرؤية الرئيس، والى اصطفاف المجتمع وراءه، تحت عنوان تثبيت الدولة.
قبل المضى قدما فى استعراض وتقديم التجربة الشاهانية فى تثبيت ايران على رؤى وتصورات الإمبراطور، يجدر التذكير بأن الرئيس عبدالفتاح السيسى كان قد أكد منذ بضعة أشهر، أن الإرهاب لم يعد يهدد بقاء الدولة المصرية، وقد ابتهجنا جميعا بهذه «البشرى»، بمن فينا أولئك الذين أثبتوا أن مصر يستحيل أن تسقط بسبب الإرهاب، وأن تاريخنا المتطاول لم يعرف قط ظاهرة سقوط أو هدم الدولة أو تجزئتها، وبمن فينا أيضا أولئك الذين يميزون ــ بحق ــ بين الدولة الثابتة، وبين النظام المتغير، ويحذرون من أن الخطر الحقيقى على مصر هو تسممها ذاتيا وببطء من داخلها (مرة أخرى كما نبه جمال حمدان)، بسبب الفساد، وتخلف وانهيار التعليم، و تعثر النمو الاقتصادى، وتضخم المديونية، وسوء الإدارة، والجباية خارج الخزانة العامة، وتقزيم المؤسسات، وتعقيم المجتمع، وانتقائية تطبيق القانون، وشيوع العرف القاضى بوجود مؤسسات وأشخاص فوق مبدأ المسئولية والجزاء.
فإذا عدنا إلى ايران تحت حكم الشاه، سوف نتذكر أن الرجل عندما أعيد إلى عرشه بانقلاب مضاد أطاح بثورة الدكتور محمد مصدق، لم ينشغل سوى بهدف واحد، هو الحيلولة دون تكرار هذه «المحنة» بكل الطرق، وبأى ثمن، ولتحقيق هدفه، سار فى عدة خطوط متوازية، منها تأمين القوات المسلحة بوضع أقاربه فى جميع مناصبها القيادية، خاصة القوات الجوية، التى ظل أصهاره يتوارثون قيادتها، ثم الدعاية التى لا تهدأ لحظة واحدة ضد ثورة مصدق، وكل أفكار وأركان حزب الجبهة الوطنية الذى قاد هذه الثورة، فضلا عن الدعاية ضد اليسار بجميع أطيافه، والتخويف، أو بث الفوبيا من سقوط الدولة على أيدى «الوطنيين الحمقى»، أو الشيوعيين، فيما الاتحاد السوفييتى يتربص بالبلاد من على الحدود، فى ذروة الحرب الباردة.
كان لابد أن يؤدى ذلك إلى اطلاق الجهاز الشاهانى لأمن الدولة «السافاك» فى تعقب وسجن وتعذيب أى مواطن يبدى أو يشتم أنه يحمل رأيا مخالفا، إلى حد أن الإيرانيين كانوا يتندرون بالقول إنهم يخشون من الدعاء على الشاه فى المساجد، حتى لا يرصد «السافاك» الدعوات وهى صاعدة إلى السماء، وهذه هى الفوبيا كما أنزلت.
لكن هذه الاستراتيجيات، وإن كانت قد ثبتت حكم الشاه العائد، واجتثت الخطر «الماثل» وقتها من بقايا الجبهة الوطنية، لم تكن لتكفى على المدى الطويل، إذ نشأت حالة فراغ مخيفة، بسبب تدمير كل مقومات الحياة السياسية فى البلاد، ولسد هذا الفراغ ــ الذى تأبى طبيعة الأشياء وجوده ــ لجأ الشاه إلى الحل المتكرر فى مثل هذه الأحوال، وهو نظرية الكل فى واحد، فأعلن ثورة الشاه والشعب، أو ما سمى بالثورة البيضاء، مبتدئا بالاصلاحات الزراعية التى تأخرت طويلا، فصادر الاقطاعيات الضخمة، وأملاك الحوزات الدينية، ووزعها على المزارعين المعدمين، وتبنى برامج وأصدر تشريعات لتحديث المجتمع والتعليم، ونفذ عدة خطط للتنمية الصناعية، لتجىء مبادرته برفع أسعار البترول فى أعقاب حرب أكتوبر المصرية السورية ضد اسرائيل، فتوفر للصناعات الوليدة رءوس أموال هائلة، مما حقق لها مزيدا من الانطلاق.
لم ينكر أحد داخل إيران أو خارجها أن بعض الانجازات المهمة قد تحققت على جميع تلك الأصعدة.
وفى غضون ذلك أنشأ الشاه حزب راستاخيز أو النهضة ليكون الاطار السياسى المنظم لثورة الشاه والشعب، وبالطبع حظرت أية أنشطة سياسية خارج هذا الحزب، الذى كان ــ كغيره من هذا النوع من الأحزاب السلطوية ــ مجرد فرع للسلطة التنفيذية، المتركزة أصلا فى يدى الشاه، بحيث لم يكن هناك دور حقيقى لأى من زعمائه، أو أعضائه المكرهين أو المنتفعين، والذين بلغ عددهم ــ قبل الاطاحة بالنظام مباشرة ــ خمسة ملايين رجل وامرأة.
لم يكتف الشاه بكل هذا، ولكنه توجه بالمبالغة المقيتة فى إضفاء ألقاب التفخيم والتعظيم على ذاته، وإسباغ مظاهر الأبهة على المؤسسة الامبراطورية، مركزا على إحياء النعرة القومية الفارسية، بوصفه امتدادا لأكاسرة العصور القديمة، أو لعرش الطاووس، كما كان يقال.
هكذا بدا فى السبعينيات من القرن الماضى أن إيران التى كانت فوق بركان فى الخمسينيات على حد تعبير الأستاذ محمد حسنين هيكل، قد أصبحت جزيرة الأمان فى الشرق الأوسط وغرب آسيا، بوصف الرئيس الأمريكى آنذاك جيمى كارتر، قبل أشهر معدودات من اندلاع الثورة.
بالطبع ليس من الوارد ولا المطلوب هنا استقصاء جميع الأسباب التى صنعت تلك الثورة، ولا تتبع مراحلها، لأن تحليلنا يتركز ــ فى المقام الأول – على إثبات أن نجاح الثورة «الإسلامية» فى إيران فى إذابة نظام الشاه محمد رضا بهلوى فى بضعة أسابيع يعود إلى حالة الفراغ السياسى التى نشأت فى المجتمع الإيرانى فيما بين فوبيا سقوط الدولة، والاصطفاف حول ثورة الشاه والشعب.
لقد أدى اضطهاد النظام الشاهانى للأحزاب السياسية، وللنشطاء المستقلين إلى إخلاء المجتمع من جميع القوى الحديثة المنظمة، بحيث لم يبق منظما سوى المؤسسة الدينية الشيعية، فهى التى تزعمت المعارضة ضد الاصلاحات الزراعية والاجتماعية فى البداية، و لم يكن للشاه حلفاء من الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين «الحداثيين» فى مواجهة هذه المؤسسة المحافظة، لأنه ببساطة كان قد قضى على هؤلاء الفاعلين قضاء مبرما.
وحينما صدر مرسوم شاهانى بتغيير بداية التقويم الإيرانى من الهجرة النبوية إلى تأسيس العرش الساسانى، حتى ثار البركان، الذى كان الجميع يظنون أنه خمد إلى الأبد، فقد وجد رجال الدين، أخيرا «القشة التى ستقصم ظهر البعير» وعلى الفور التحق بهم كل المعارضين القدامى والمحدثين، ثم الصفوف الوسطى والصغرى من الجيش نفسه، بعد أن رأوا الثائرين يستقبلون الرصاص بصدورهم.
من المفارقات عميقة الدلالة فى تلك اللحظة بالغة الحرج أن الشاه نفسه لم يجد حلا سوى اللجوء إلى بقايا حزب الجبهة الوطنية، أى رجال مصدق، ليشكل منهم حكومة جديدة برئاسة شاهبور بختيار، ولكن الوقت كان قد تأخر كثيرا، فهو نفسه الذى أفقدهم المصداقية، وهو نفسه الذى فض عنهم كوادرهم الحزبية القديمة، وغيبهم عن وعى الأجيال الشابة، فكان لابد مما ليس منه بد، واكتسح الطوفان كل شىء.
لكن دلالة هذه المفارقة لا تتوقف عند حكومة بختيار، فقد ظن آية الله الخمينى، قائد الثورة نفسه أنه فى حاجة إلى تعاون رجال مصدق، فاختار منهم رئيس أول حكومة للثورة، وهو المهندس مهدى بازركان، الذى اختار بدوره بعض زملائه القدامى لمعاونته، من أمثال كريم سنجابى، وابراهيم بازدى، و لكن ماهى إلا بضعة أشهر، حتى تبين للجميع، أن هذه الأشباح القادمة من وراء أكثر من عقدين من الزمان، ليس لهم فئة ينصرونهم من دون رجال الدين الطامعين فى الانفراد بالسلطة على كل المستويات، أى ليس لهم قواعد جماهيرية منظمة يحسب حسابها، فأطاح الملالى بهم بكل سهولة، ليعودوا إلى كهوف الداخل، أو يهربوا إلى منافى الغرب، أما من حاول شيئا من المقاومة، فكانت المشنقة فى انتظاره. وكانت تلك أيضا من النتائج المأساوية للتدمير الشاهانى المنظم للحياة السياسية فى المجتمع الايرانى.. بالفوبيا والاصطفاف، ودمج الكل فى واحد، لقد أوتى الحذر من مأمنه!
قلنا من قبل هنا، ونكرر: إن حياة سياسية وحزبية قوية، ومنظمات مدنية ونقابية فاعلة هى مكونات الجهاز المناعى للمجتمع ضد التطرف والإرهاب، فى حين تبقى الضربات الأمنية، والمواجهات المسلحة أشبه «بالمضادات الحيوية» اللازمة فى لحظة «الالتهاب».. ولكن مفعولها لا يكتمل، ومن ثم لا يتعافى الجسد على المدى الطويل، إلا إذا كان جهاز المناعة سليما وقويا.