صورة لبنان «الكبير» من جبران إلى فيروز - صحافة عربية - بوابة الشروق
الأحد 22 ديسمبر 2024 1:12 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

صورة لبنان «الكبير» من جبران إلى فيروز

نشر فى : الخميس 10 سبتمبر 2020 - 8:25 م | آخر تحديث : الخميس 10 سبتمبر 2020 - 8:25 م

نشرت جريدة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتب شوقى بزيع... جاء فيه ما يلى.
مائة سنة كاملة هى المسافة الزمنية الفاصلة بين وقفة الجنرال الفرنسى غورو فى قصر الصنوبر، فى بيروت، ليعلن ولادة الكيان اللبنانى الجديد، وبين إعلان حفيده إيمانويل ماكرون، من المكان ذاته، عن تصدع ذلك الكيان الذى أطلقت عليه السلطة المنتدبة آنذاك صفة «الكبير»، لا لاتساع رقعته الجغرافية ونفوذه السياسى، بل لأنها ألحقت به الأقضية الأربعة التى سُلخت عنه زمن الدولة العثمانية، وهو ما يعكس الطبيعة الملتبسة الرجراجة لجغرافيا الكيانات السياسية الجديدة التى تمخضت عنها اتفاقية سايكس ــ بيكو، والتى لم تحددها وقائع التاريخ وحده، بل موازين القوى القائمة على أرض الواقع، وما استتبعها من تقاسم للنفوذ بين الدولتين العظميين آنذاك.
على أن عجز اللبنانيين التاريخى عن تكوين هوية جامعة، لم يكن الوجه الوحيد لصورة لبنان الواقف باستمرار على شفير الانشطار الأهلى، بل ثمة وجه آخر متصل بقدرة هذا البلد المأهول بكل عناصر التفجر على أن يعيد تكوين نفسه باستمرار. ومن يتابع تاريخ بيروت الحديث، لا بد أن ينظر بعين الدهشة إلى التطور الهائل الذى أصابته المدينة قبل قرنين من الزمن، حين أمكنها التحول بسرعة قياسية من ميناء صغير على المتوسط إلى مدينة آهلة بالجامعات والمعاهد والصحف والمطابع.
إلا أن التزامن اللافت بين إعلان الجنرال الفرنسى غورو عن ولادة لبنان «الكبير» عام 1920، وإعلان جبران خليل جبران وثلة من الشعراء عن إنشاء «الرابطة القلمية» فى نيويورك، فى العام نفسه بفارق شهور قليلة، يتخطى حدود المصادفة المجردة. وإذا كان القائد الفرنسى قد أطلق على البلد المتوسطى صفة «الكبير»، فإن هذه الصفة تجد مسوغها فى الأدب والشعر والثقافة، لا فى السياسة والاقتصاد والجيوش الجرارة. وقد يكون صاحب «النبي» من هذه الزاوية هو التجسيد الأبلغ لصورة لبنان الذى تصنعه الحيوية والتنوع والمغامرة الإبداعية التى عثرت عبر جبران على ضالتها المنشودة. وإذا كانت القيمة الأهم لجبران متأتية من تجاوزه غير المسبوق لحقبة الانحطاط العربى التى بلغت الدرك الأسفل من الركاكة، وقدرته الفائقة على اجتراح لغة جديدة نابضة بالحياة، فإن ذلك الإنجاز لم يكن من نتاج الموهبة وحدها، بل هو ثمرة التضافر الخلاق بين الداخل والخارج.
لقد تمكن جبران ــ بهذا المعنى ــ أن يحقق اختراقاته التجديدية على جبهتين اثنتين: جبهة اللغة فى وجمالياتها المختلفة، وجبهة المشروع الثقافى والفكرى النهضوى. كما أن نتاجه الإبداعى يتراوح بين التحليق الرومانسى فوق واقع بلاده المؤلم المثخن بالجهل والفساد، كما فى «دمعة وابتسامة» و«عرائس المروج»، وبين نزعة التمرد والرفض، كما فى «العواصف» و«الأرواح المتمردة» و«المجنون» وغيرها.
إن أى استعادة متأنية لأعمال جبران لا تشعرنا بأن هذه الأعمال قابلة للتجدد والقراءة فى كل زمن فحسب، بل تدفعنا أيضا إلى التساؤل عما إذا كان الجريان والتبدل هو من سمات الزمن الشرقى، أم أن هذا الزمن جامد متخثر غير قابل للتسييل. فلو أزلنا التواريخ المتعلقة بنصوص من مثل: «دينكم رياء ودنياكم ادعاء وآخرتكم هباء، فلماذا تحيون؟»، أو «نحن نبكى لأننا نرى تعاسة الأرملة وشقاء اليتيم، وأنتم تضحكون لأنكم لا ترون غير لمعان الذهب»، لشعرنا من دون أدنى شك بأن المعنيين بالرثاء هم اللبنانيون الجوعى المقهورون الواقفون على أطلال مدينتهم المهدمة، وأن المعنيين بالاتهام هم أهل السلطة الحاليون، بكل جرائمهم الموصوفة.
لم يتَح للأخوين رحبانى بالطبع أن يلتقيا بجبران، حيث ولدا قبل رحيله بسنوات قليلة. أما فيروز، فقد ولدت بعد رحيل صاحب «المواكب» بسنوات أربع. ومع ذلك، فإن أحدا من اللبنانيين لم يعمل على تحويل الحلم الجبرانى إلى حقيقة إبداعية ملموسة كما هو حال الأسرة الرحبانية. وإذا كان جبران قد أرهص بولادة لبنان، وواكب فترة انتقاله من حقبة المتصرفية إلى حقبة الانتداب وإعلان الدولة، فإن الرحبانيين وفيروز كانا يعكسان بأعمالهما الغنائية تحوّل الحلم اللبنانى إلى حقيقة واقعة التى أعقبت الاستقلال. وكما واءم جبران بين المحلية والعالمية فى رحلته الأدبية الممتدة من «الأجنحة المتكسرة» إلى «النبي»، فقد فعل الرحابنة الشيء ذاته، حيث تتدرج الأعمال الغنائية من عوالم القرية الصغيرة، بتقاليدها الزراعية، لتلامس فى المقلب الآخر أسئلة الحياة والموت والحرية.
وكما اجترح جبران فى كثير من أعماله عالما من العواطف المشبوبة والتفتح القلبى، وهو ما يفسر افتتان الشبان فى مقتبل العمر بنصوصه وشخصياته، فإن صوت فيروز يقوم بالمهمة ذاتها، حيث الصوت يواكب الصباح فى تفتحه، وحيث الأعمار طازجة باستمرار، بعيدة عن تلف الشيخوخة وتغضناتها. وإذا كان الاحتفاء بالثلج فى الأغنية الفيروزية انعكاسا طبيعيا للاحتفاء بجبال لبنان الشامخة، فهو يبدو من جهة أخرى نوعا من «التعازيم» الطقوسية المرافقة لبطالة الزمن، تماما كما هو حال «شادي»، أو حال «نواطير الثلج» الذين يحرسون أحلام البشر الغافين. أما جبران الثائر الغاضب المتمرد على الواقع، فله بالمقابل ما يماثله ويكمله فى الفن الرحبانى وصوت فيروز. فمثلما يهتف المجنون فى الكتاب الذى يحمل العنوان نفسه: «إن أذنى مثقلتان بنحيب الأمم المستعبدة، والتحسر على الممالك المهجورة»، تطلق فيروز فى مسرحية «بترا» نداءها الطالع من الأعماق: «يا ريت فيى روح حرّر هالعبيدْ، ضوّى الفرح بقلوبهن جبلن العيدْ، احمل السيف بإيدْ وبلادى بإيدْ».
هكذا، يمر قرن كامل على ولادة الكيان اللبنانى الحالى، دون أن يتقدم على مستوى الاجتماع السياسى قيد أنملة باتجاه المستقبل، ودون أن يجد الحلمان الجبرانى والرحبانى ــ الفيروزى ما يسندهما على أرض الواقع. ومع ذلك، فإذا كان ثمة من خميرة يدخرها هذا البلد الصغير المعذب لأجياله القادمة، فهى بالقطع لا تمت إلى زعمائه السياسيين بأى صلة تذكر، بل هى صنيعة مبدعيه وفنانيه وكتّابه الكبار الذين يضعونه على طريق المستقبل، وينقلون شعلته المتوهجة من جيل إلى جيل.
النص الأصلى:
https://bit.ly/32eh0K4

التعليقات