يمكن لمشروعات استعادة الطبيعة البرية داخل المدن أن تحسن من جودة حياتنا وتسهم فى مواجهة التغير المناخى وتدهور التنوع الحيوى فى ذات الوقت، كما أن دمجها مع الزراعة الحضرية ومعالجة مياه الصرف لتأمين جزء ضرورى من طعامنا وتقليل هدر المياه سيحسن من المظهر الخارجى للعمران الذى نعيش فيه والذى يكاد يصيبنا بالكثير من الأمراض الحسية والعقلية. كانت هذه الفرضية الرئيسية التى طرحتها فى إحدى المقررات التى أقوم بتدريسها هذا الخريف.
اقترحت أن نركز أولا على الدراسات الأولية التى تستهدف تحليل السياق الذى يقع فيه أى مشروع معمارى، ولأن طلبتى يعدون مشروع تخرجهم قدرت أن باستطاعتهم فهم والتفاعل مع ما سأطرحه. من أولى الخطوات التى قمنا بها جولة على الأقدام وبالمترو للوقوف أمام بعض المشروعات المعمارية القائمة والنقاش حول ما يدرسونه عادة فى قاعات الدراسة المغلقة ومن خلال أمثلة لمشروعات من أماكن أخرى خاصة من الغرب.
بدأنا جولتنا العمرانية الأولى من الحرم الجامعى لكلية الهندسة بجامعة القاهرة ومن المبانى التى صممها وبناها أساتذتنا الذين تأثروا بالأفكار الحداثية وروادها ونقلوا وطبقوا ما تعلموها فى أثناء دراستهم فى الغرب. شرحت لهم كيف أن عمارة الحداثة بتشديدها على العقلانية حاولت أن تجد مبررات واضحة للتصميم منها بالطبع الصحة، وكانت ترجماتهم المبسطة لذلك فى الاهتمام بتوجيه المبنى ليتجنب التعرض الزائد للشمس ويتعرض للتهوية والإضاءة المطلوبة وكانت النتيجة الواضحة فى المبنى الأول توجيه المبنى باتجاه الشمال ليتلقى الإضاءة اللازمة والرياح الباردة فى الصيف وهو ما تبعه المبنى الثانى فى ذلك. فى هذا التصميم الذى يبدو عقلانيًا ومصممًا على أسس علمية تم تجاهل وجود المبانى المحيطة به والقائمة منذ عقود، وأتذكر ما قرأته لأحد الأستاذين أنه افترض أن المبانى القائمة القديمة سيتم هدمها لاحقًا. لحسن الحظ لم يتم ذلك، لكننا نعيش منذ سنوات عديدة مع مبانٍ حداثية فى علاقة غير ودية مع المبانى القائمة، وهو ما أنتج فضاءات خارجية ليس من السهل استخدامها بكفاءة، كما أن تلك العلاقات غير مريحة للعين بالمرة حيث يظهر بوضوح أن المبانى القديمة واقعة تحت التهديد من المبانى الحداثية. والعلاقة ليست أفقية فقط ولكن أحد المبنيين ارتفع للدرجة التى تتضاءل بجواره معها المبانى القديمة القائمة، وارتفعت حتى أكثر من ارتفاع قبة الجامعة، والتى أعتقد أنه لا ينبغى لأى مبنى فى الجامعة تجاوزها.
زرت معهم أيضًا مبنى فى ميدان المساحة ينتمى لفترة ما يسمى عمارة ما بعد الحداثة وكان واضحًا افتعال الرموز التاريخية وتشويهها بالرغم من اعتقادى بعدم الحاجة إليها الآن، لأنه وعلى عكس الفترات التاريخية التى أنتجت فيها تقنياتها وموادها وأفكارها أشكالًا كانت رائعة فى وقتها حتى الآن، لأنها كانت استجابة طبيعية للظروف المحيطة.
أكملنا المسير وتوقفنا قليلًا أمام متحف محمود مختار للمعمارى المصرى الكبير رمسيس ويصا واصف، ولأنى أحب المتحف معماريًا من الخارج كما وقعت فى أسر جمال أعمال محمود مختار فى داخله برغم ضعف العمارة الداخلية (التى أعتقد أن رمسيس ويصا واصف ليس مسئولًا عنها لكن آخرين حاولوا تجديد الداخل من سنوات) فقد خرجت قليلًا عن إطار النقاش واقترحت على طالباتى زيارته.
كان توقفنا الثالث عند مبنى قصر الفنون، وهو من تصميم المعمارى الكبير الراحل عبدالحليم إبراهيم عبدالحليم، وهو فى حقيقته تعديل على مبنى قائم من الستينيات. شرحت للطالبات أن عمارة عبدالحليم إبراهيم تنتمى لفرع فى عمارة ما بعد الحداثة تسمى الإقليمية النقدية، وهى التى تعارض أفكار الحداثة وما نتج عنها من مبانٍ متشابهة فى أمكان مختلفة جدًا فى العالم. استُلهمت عمارة عبدالحليم من التراث وإن لم تنقل منه حرفيًا، لأنها تحاول أن تتبنى هوية محلية لا تجافى التقنيات الحديثة، لكنها تراعى تقاليد المجتمعن وثقافته سميت بعمارة المقاومة. وبالرغم من الحرفية العالية فى التصميم والابتكار فإن ذلك الاتجاه تعرض أيضًا لنقد كبير من العديد من المعماريين.
وعدت طالباتى بزيارة قريبة لحرم الجامعة الأمريكية فى القاهرة الجديدة لنستكمل نقاشنا عن العمارة النقدية الإقليمية أو ما تسمى بعمارة المقاومة حيث سنزور أعمال المعمارى الأمريكى لوجاريتا، وهو تلميذ مباشر لمؤسس العمارة النقدية الإقليمية المعمارى المكسيكى لويس باراجان، كما سنزور أيضًا بعض مبانى عبدالحليم إبراهيم.
ما أحاول شرحه لطلبتى وأيضًا لآخرين أننا فى ضوء التحديات الكبرى التى نواجهها فى مصر ويواجهها العالم معنا خاصة تحدى التغير المناخى وتدهور التنوع الطبيعى، لا يستطيع المعمارى أن ينأى بنفسه بعيدا ليس فقط، لأن المبانى وقاطنيها هم من المساهمين الكبار فى الحالة التى وصل إليها كوكبنا، لكن أيضًا لأن لدينا مسئولية للعمل من خلال مهنتنا ليس فقط لإيجاد مبانٍ وفضاءات جميلة ومريحة للناس، لكن أيضًا للمساهمة فى درء الأضرار التى تتسبب فيها المبانى والمساهمة فى إنقاذ المجتمع وأفراده من الكوارث التى من المتوقع حدوثها إن لم نتحرك بفعالية فى أقرب وقت.
شرحت لهم أيضًا أن السياق الاجتماعى الإيكولوجى لا يستطيع أن يحصر نفسه فقط فى الإطار المحلى، لأننا نعرف جيدًا من العديد من الدراسات العلمية أن الفهم المحلى والتأثيرات الواقعة عليه لا بد أن تتضمن أيضًا فهمًا للإقليم وما بعده لأن المكان المحلى لا يستطيع أن يستقل بذاته، ولأن ارتباطه بالإقليم والعالم ارتباطًا عضويًا فيه الكثير من التأثير والتأثر، ما يجعل من المهم بمكان فهم التأثيرات الصادرة من الأماكن الأخرى ما اقترب منها منا وما ابتعد حتى وإن بدت مركبة، وتحتاج إلى مجهود فى فهمها.