دروس من بالتيمور - داليا سعودي - بوابة الشروق
الخميس 9 يناير 2025 4:27 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دروس من بالتيمور

نشر فى : الإثنين 11 مايو 2015 - 9:10 ص | آخر تحديث : الإثنين 11 مايو 2015 - 9:10 ص

بعيدا عن كتابات التشفى فى شرطى العالم الذى يُثبت مرة أخرى رياءه، وبعيدا عن قراءاتٍ تبرر اعتيادية عنف الدولة فى مواجهة مواطنيها، هذا حديثٌ فى الدروس المستفادة من أنباء الجريمة العنصرية التى ارتكبتها عناصر من الشرطة فى مدينة بالتيمور الأمريكية.

دروسٌ وعبـَر نستقيها من مصرع «فريدى جراى» الشاب الأسود، الذى ألقى القبض عليه بغير تهمة، وقُذف به فى حافلة الشرطة، منكفئا على بطنه، مقيدَ اليدين والقدمين من خلاف، لتنطلق السيارة بسرعة جنونية، وتنطلق معها صرخات الفتى وهو يتخبط فى جدران العربة المعدنية، ليتم إخراجه منها بعد ساعة وقد دُق عنقه. سيموت جراى بعد أيام فى الغيبوبة وستنتفض مدينته، قبل أن تأتى بشائر العدالةــ هذه المرةــ بغير تأخير. فقد جرت العادة على أن الشرطة لا تُحاسب، وعلى أن الغلابة لا دِيـةَ لهم.

•••

(1)
درس فى البلاغة الإعلامية
يومَ دُفن فريدى جراى، واشتعلت بالتيمور بالغضب الساطع، كان فى العاصمة حدثٌ جلل من نوع آخر! موعدٌ لا تخلفه زبدةُ الإعلام وبياض البلد، كل ما فيه ينطق بالرفاه والترف. ألا وهو حفل عشاء مراسلى البيت الأبيض السنوى. وعندما حانت كلمة الرئيس أوباما، لم يلقِ سيدُ البلاغةِ المتوج خطبة أخرى من خطبه العصماء. فقد آثر أن يقدم عرضا جديرا بأن يدرَّس فى محاضرات علم الأسلوب، لنجاحه فى رسم الابتسامة على الشفاه، فيما يقر الغصة فى الحلق.
فبعد فاصل من السخرية اللاذعة من الذات ومن الساسة، استدعى أوباما إلى المنصة ممثلا كوميديا ليؤدى دور مترجم لأفكاره الغاضبة المختفية بين طيات كلماته المنمقة. ومضى الرئيس يتحدث بهدوء، فيما مترجم الغضب «لوثر» يصرخ بالمستور من أفكاره، هازئا بالإعلاميين وبحفلهم. لماذا سماه الرئيس «لوثر»؟ أفى ذلك استدعاء لذكرى ثورة أخرى من إرث نضال أمريكا السوداء؟ ربما.

على أى حال، كانت تلك طريقة الرئيس لإبلاغ أقطاب الإعلام الحاضرين رسالة مفادها: نعم، غاضبٌ أنا أيضا مثل أهالى بالتيمور على الساحل الشرقى للبلاد. غاضب أنا منكم يا سادة الإعلام، لتجاهلكم الجريمة وتحاملكم على الضحية، وتعاميكم عن المسيرات السلمية التى استمرت لأكثر من أسبوع قبل انتفاضة المدينة. غاضب أنا من جور أدائكم الإعلامى اليومى الذى يكرس الاستقطاب والإقصاء، ويؤجج عداء البيض ضد السود، غاضبٌ من ألسنتكم الحداد التى تسلقنى كلما أردت لفت انتباهكم إلى أن بلادنا لم تتخلص بعد من إرثها العنصرى الكريه.

فى أحداث بالتيمور، شوّهت كاميرات التليفزيون القصة. إذ ركزت التغطيات على مشاهد السلب والتخريب، وظلت تبثها مرارا وتكرارا، وأغفلت تماما الخوض فيما جرى للضحية، وفيما يعانيه 63% من سكان المدينة السود من تاريخ طويل من الاضطهاد والإفقار وانتهاك حقوقهم المدنية والإنسانية على أيدى الحكومات المتعاقبة. تحيزت الكاميرات وخرج دونالد ترامب ناعقا عبر تويتر: «لم يستطع رئيسنا الأفروأمريكى العظيم أن يؤثر بصورة إيجابية على العصابات السوداء التى أطلقت يدها فى تدمير بالتيمور».

لكن الأسوأ فى معالجات الصحافة القومية للأحداث لم يكن تقديمها المعلومة المجتزأة والمتحيزة والمفتقرة إلى الدقة، بقدر ما كان انخراطها معا كجوقة واحدة فى الدعوى إلى استخدام الشرطة لمزيد من العنف فى مواجهة المتظاهرين. تلك هى المفارقة الأولى، المتمثلة فى إعلام يحض على التمادى فى العنف لمعالجة مشكلة نشأت أصلا نتيجة للإفراط فى استخدام العنف! وتلك هى الفاشية الإعلامية بعينها التى تقودنا إلى استخلاص الدرس الأول:
النزاهة الإعلامية من ضمانات السلم المجتمعى، فكل عوار إعلامى لا يمكن إلا أن يكرس لمزيد من الشقاق، ومزيد من الاحتقان.

•••

(2)
درس فى قصور الحلول الأمنية
وأما المفارقة الثانية، التى أطلت برأسها فور اندلاع العنف، فهى أن تكون الشرطة هى المنوطة بمعالجة أزمة فجرتها أصلا ممارسات الشرطة! وهو أمر ليس بجديد. فلقد احترقت بالتيمور فى إبريل 1968 بفعل الاحتجاجات الغاضبة إثر اغتيال مارتن لوثر كينج، واستُدعيت شرطة الشغب والحرس الوطنى لاحتواء الموقف. وكأن نيسان هو شهر الحرائق فى المدينة الحزينة. وكأن جهاز الأمن هو الجهة التى ينبغى دائما أن تنفرد بتقرير مصائر العباد والبلاد، رغم أن لجنة تقصى الحقائق الجنائية التى شكلتها الحكومة فى ولاية ماريلاند فى الستينيات قد خلصت إلى أن السياسات الأمنية العنصرية هى المسئولة عن إشاعة أعمال العنف وعن خلق أسباب الاحتجاج.
وبعد خمسين عاما، فيما بالتيمور تحترق بألسنة الغضب، سارع أوباما إلى دق ناقوس الخطر. لم يستعن وسط غليان الأحداث بمترجم غضب وإنما استعاد شيئا من طلاقته الآسرة، التى أوصلته إلى سدة الحكم قبل أكثر من ست سنوات مضت. كانت كلماته لا لبس فيها: «صار مقتل الأمريكيين الأفارقة على أيدى رجال الشرطة أزمة تتفاقم بانتظام» (..) «ولا يسعنا أن نكتفى بترك هذه الأزمة للشرطة!»(..) و«لو ظننا أن كل ما علينا فعله هو إرسال الشرطة للقيام بالمهام القذرة لاحتواء المشكلة، من دون أن نعترف كدولة ومجتمع بما يسعنا أن نصنع لتغيير حال تلك المجموعات، وللمساعدة فى تنميتها ورفع مستواها وإعطاء الشباب فرصة فى حياة أفضل، لو لم نصنع ذلك فلن نحل هذه المشكلة. وسنستمر فى الدوران فى الحلقة المفرغة لتلك النزاعات الدورية ما بين الشرطة وتلك المجموعات وأعمال الشغب».

تحدث الرئيس أوباما عن إصلاحات هيكلية فى جهاز الشرطة، وعن إصلاحات فى العدالة الجنائية، وعن سياسات تنموية اجتماعية تستهدف بعمق الفئات المهمشة والمظلومة من قبل النظام. تحدث عن جذب الاستثمارات فى مدينة نهشتها البطالة، من أجل تنمية بشرية أفضل، تحدّ من التوتر الكامن تحت السطح. والأهم هو دعواه الملهِمة إلى أن «تراجع أجهزة الشرطة نفسها، وأن تراجع الجماعات الغاضبة نفسها، وأن يراجع الوطن نفسه». فمن دون تلك المراجعات والمكاشفات لا يمكن تضميد جراح الماضى أو المضى إلى الأمام.

والدرس المستفاد:
الحلول الأمنية وحدها قاصرة، الحل هو التنمية فى الإنسان. «افتحوا مزيدا من المدارس تغلقوا مزيدا من السجون». قالها قديما فيكتور هوجو.

•••

(3)
درس فى العدالة
لم تهدأ أعمال الشغب فى بالتيمور بفعل حظر التجول، ولا هى هدأت بفعل إعادة انتشار 3000 جندى من الحرس الوطنى فى أرجاء المدينة، بل هدأت حين أعلنت، بعد أقل من أسبوعين من الواقعة، المدعيةُ العامة مارلين موسبى عن تقديم ستة من عناصر الشرطة المسئولين عن قتل جراى إلى المحاكمة، وبتهم جنائية حقيقية قد تستتبع عقوبات مغلظة. صحيح أن القرار سياسى فيما يبدو، لكنه يحمل وعودا بأن تأخذ العدالة مجراها. فأقصى ما يؤلم المواطن الذى شعر بالغبن وخرج فى ثورة، هو أن يرى من ظلمه وقد أفلت من العقاب. أقصى ما يستثيره هو أن يرى دماء قد أريقت، وحقوقا قد انتُهكت، فيما العدالة تتباطأ فى الوصول، أو تغيب وراء الأفق.

قبل حادثة بالتيمور، كانت وزارة العدل الأمريكية قد أصدرت تقريريـْن بخصوص جهاز شرطة فيرجسون بولاية ميزورى فى أعقاب مقتل الشاب الأسود مايكل براون (18 سنة)، قررت فى أولهما عدم توجيه اتهامات جنائية ضد ضابط الشرطة المتهم دارين ويلسون، بينما تضمن التقرير الثانى 100 صفحة تفصّل الممارسات العنصرية التى تنتهجها شرطة فيرجسون والنظام القضائى المحلى ضد الأمريكيين الأفارقة، فى غياب تام لمفهوم الرقابة والمحاسبة. ولم تكن تلك هى المرة الأولى التى يغض فيها القضاءُ البصر عن فساد الشرطة وجرائمها العنصرية التى طالت حتى الأطفال، ولن تكون الأخيرة. حتى وإن خرجت الاحتجاجات تهتف عبر الوطن أن «حياة السود مهمة»!

قبل خمسين عاما، حذرت اللجنة الأمريكية القومية للانتهاكات المدنية من أن «استمرار السياسات العنصرية الحالية سيؤدى إلى انقسام الوطن على نفسه إلى مجتمعين: الفقراء السود، والميسورين البيض»، وقد تحققت النبوءة حتى وإن جىء برئيس أسود فى البيت الأبيض.

فى مدينة بالتيمور، مسقط رأس أوبرا وينفرى وإدجار ألن ﭘو، وصل هذا الاستقطاب الصارخ إلى أقصى مداه، مما استدعى إحياء العدالة الجنائية وإن بقرار سياسى مباشر لمنع استفحال الأزمة. إذ لم يكن يكفى أن يتم توجيه النداء إلى الغاضبين بالتزام اللاعنف. لأن اللاعنف يبدأ أولا فى معسكر الأقوياء كما كان يقول المهاتما غاندى. أما لا عنف الضعفاء والمظلومين أمام سيف الطغيان، فهو محض استسلام وركون للمهادنة. ففى أحداث بالتيمور، كانت ثمة حقيقة تطل بوضوح من بين أعمدة الدخان، ألا وهى أن عنف الدولة وعنف العامة لن يكونا أبدا الحل السليم لأزمة الوطن المستشرية.

والدرس المستفاد:

العدالة النزيهة الكاملة بأقسامها الثلاثة، التشريعى، والقضائى والتأديبى هى السبيل لتعزيز دولة القانون وحفظ السلم المجتمعى

•••

و بعد،
ثمة طريقتان خاطئتان لقراءة هذا المقال:

الأولى تطرح جانبا وسيلة المقارنة، بين الحالة الأمريكية والحالة المصرية، فى وقت يموت فيه سجناءٌ فى محابسنا تعذيبا واختناقا، بينما إعلامنا يركز على قصص تجافى إيقاعاتُها النغمة الصحيحة. وفى وقت يصف فيه رئيس محكمة القاهرة الجنائية «قناص العيون» بأنه «ضابط غلبان». فالمقارنة وسيلة لاستخلاص الدروس والعبر ولبيان موقعنا على خارطة العدالة إما مشابهة أو مفارقة.

أما طريقة القراءة الخاطئة الثانية فهى توسيع حدود المقارنة إلى أقصى مداها، سعيا لإسقاط الأسماء والجماعات هناك على أسماء وجماعات هنا. فليس هذا هو المراد ولا هو المقصود.

لتكن قراءتنا محبة فى العدالة.

لتكن قراءتنا محبة فى الوطن.

داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات