يعتقد الكثيرون بوجود تراجع كبير فى دور ونفوذ الولايات المتحدة فى الشرق الأوسط خلال السنوات القليلة الماضية، وخرجت أصوات متعددة تنظر لما تراه انسحابا أمريكيا يتم طوعا أو كرها منذ وصول أوباما للحكم فى يناير 2009.
أطلق البعض وصف «مبدأ أوباما Obama Doctrine» على تصور الرئيس الأمريكى للعلاقات الدولية والذى استبعد معه استخدام القوة المسلحة إلا للضرورة القصوى التى تمثل تهديدا واضحا للأمن القومى الأمريكى. ويرى بعض المنظرين أن موقف أوباما من الحروب الأهلية فى سوريا والعراق، ورفضه للاستخدام المباشر للقوة العسكرية، وكذلك توصل الادارة الأمريكية لتفاهمات لبدء مفاوضات جادة مع إيران بعد عقود من الجمود بمثابة تراجع أمريكى. ومثل دخول المفاوضات بين إيران والمجموعة الدولية (5+1) مرحلة حاسمة خبرا مزعجا للدول الخليجية وإسرائيل فى الوقت ذاته.
يعتقد أوباما بأن الحروب الأمريكية التى عرفتها بلاده فى عهد جورج بوش كانت مكلفة بصورة لم يتخيلها أكثر المتشائمون. من هنا لجأ أوباما لأساليب غير مباشرة وغير مكلفة، وعلى سبيل المثال توسع أوباما فى استخدام أسلوب القتل بالطائرات بدون طيار drone فى بعض الدول منها باكستان واليمن وبعض الدول الأفريقية. كما أختار أوباما التدخل العسكرى المحدود فى حالة توافر غطاء من حلف الناتو بحيث لا يظهر تورطا مباشرا لواشنطن كما كان الحال فى عمليات قصف ليبيا قبل سقوط نظام العقيد معمر القذافى. وأرتبط بتصور أوباما للعلاقات الدولية تخفيض كبير فى ميزانية وزارة الدفاع خلال سنوات حكمه الست والتى بدأت عند 666 مليار دولار عام 2009 لتصل خلال هذا العام إلى 615 مليار، كما انخفض عدد القوات الأمريكية بأكثر من 70 ألف جندى، من 1.56 مليون جندى ليصل إلى 1.49 مليون جندى فى ذات الفترة.
•••
خلال حملته الرئاسية عام 2008 أكد الرئيس أوباما أنه «لن يتقيد بعقيدة رئاسية لأن العالم معقد لا يسمح بذلك»، ورأى أوباما أنه فى ظل تعقيدات العالم ينبغى التمتع بمرونة فى التعامل مع مستجدات الأوضاع الدولية. ولم تظهر هذه الرؤية بوضوح فى منطقة واحدة كما ظهرت فى الشرق الأوسط. جاء أوباما للحكم بعدما قتل لأمريكا فى العراق ما يقرب من 4.5 ألف جندى، وجرح أكثر من 32 ألف أخرين. ولا أعتقد أن أمريكا تحت حكم أوباما تمتلك استراتيجية واضحة فى الشرق الأوسط، لها فقط مجموعة من المبادئ والافكار العامة للتعامل مع ما تراه واشنطن مصالح لها.
ومنذ أن ورثت واشنطن النفوذ البريطانى والفرنسى فى المنطقة عقب الحرب العالمية الثانية، لم تتمتع المصالح الأمريكية باستقرار كما هو الحال اليوم. وكما تساءل مسئول عسكرى أمريكى ساخرا فى جلسة خاصة بخصوص سوريا «كم عدد القتلى الأمريكيين فى هذه الأزمة الإقليمية الطاحنة التى سببت الكثير من اللوم لنا؟» ورد ذاكرا «صفر»! بمعنى أن ما يحدث فى سوريا لم يسبب قتل أو جرح أى أمريكى. من هنا فما يحدث فى الشرق الأوسط لا يعنى تهديدا مباشرا للأراضى الأمريكية أو الاهداف الأمريكية فى المنطقة. من هنا أستغرب على بعض القادة العرب عدم تفهمهم لمواقف واشنطن.
•••
النظرة التقليدية التى تمثلها المملكة السعودية ودول الخليج التى تريد لواشنطن أن ترسل أساطيلها وطائراتها لإسقاط الرئيس السورى بشار الأسد، وهى النظرة التى تلقى باللوم على تردد أوباما فى التدخل فى العراق ضد التنظيمات السنية المسلحة، تتجاهل طبيعة فهم الرئيس الأمريكى لدور بلاده فى الشرق الأوسط. وعلى سبيل المثال يعتقد تركى الفيصل، مدير المخابرات السعودية الأسبق، أن العالم أصيب بخيبة أمل بسبب تشوش السياسة الخارجية الأمريكية خلال حكم أوباما. إلا أن وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى يرى أن «تلميحات الانسحاب الأمريكى من الشئون الدولية خرافة». ويعتقد ستيف والت من جامعة هارفارد أن لواشنطن ثلاثة مصالح هامة فى الشرق الأوسط اليوم، وهى استمرار تدفق النفط للأسواق العالمية، وتقليل مخاطر الإرهاب الذى يستهدف المصالح الأمريكية، وثالث الأهداف يتعلق بمنع انتشار أسلحة الدمار الشامل. ويؤمن الأكاديمى الأمريكى البارز أن مصالح واشنطن لا تتعرض حاليا لأى تهديدات حقيقية.
•••
لم يتقلص النفوذ ولا الجاذبية الأمريكية داخل الشرق الأوسط، فقط تغيرت طبيعته. استمرار النفوذ الأمريكى الطاغى فى دول الشرق الأوسط العربية ينعكس بقوة فى ظواهر مختلفة منها وجود أكثر من مائة ألف من الطلبة العرب يدرسون فى جامعات أمريكا. كما أن ظاهرة الزيادة الغير مسبوقة فى رحلات الطيران المباشرة بين مدن عربية مثل الرياض والدوحة ودبى وأبو ظبى والكويت، والتى تصل بدون توقف لعدة مدن أمريكية بخلاف نيويورك وواشنطن مثل بوسطن وشيكاغو وميامى وهيوستن ولوس أنجلوس. عشرات الرحلات اليومية لا تنقل فقط المواطنين بين العالمين، بل تنقل أيضا الأفكار والنفوذ والأموال. أما عن استخدام نخبة الحكم والمال فى دول الخليج للغة الانجليزية فى تعاملاتهم وتدهور اللغة العربية وسط مواطنيها فهو أخطر درجات تفاقم النفوذ الأمريكى.
العرب أنفسهم وحكامهم سمحوا ومازالوا يسمحون بتمدد النفوذ الأمريكى. يستمتع القادة العرب بإلقاء اللوم على واشنطن على ما تقوم به أو ما لا تقوم به. وللأسف لا يريد العرب لأنفسهم أن يسيطروا على مقدراتهم ومصائرهم، واختاروا أن يعطوا مفتاح حياتهم لواشنطن. ولا يجب أن يلوم أحد واشنطن على طريقة رؤيتها لمصالحها وعدم اكتراثها أحيانا بمصالح حكام بعض الدول العربية.