اليوم تكتمل ثمانى سنوات على وقوع ذلك الحادث المروع فى 11/9/2001: سقوط البرجين الشاهقين لمركز التجارة العالمى فى نيويورك، وتفجير وزارة الدفاع الأمريكية فى واشنطن، كنا نظن وقتها أن فظاعة الحادث تتمثل فى سقوط عدد كبير من القتلى الأبرياء الذين كانوا وقت التفجير فى داخل البرجين أو فى وزارة الدفاع «قيل فى البداية أن عددهم سبعة آلاف ثم ظهر أنهم نحو ألفين».
ولكن مع مرور الوقت تبين أن فظاعة الحادث الحقيقة تكمن فى شىء آخر، وهو اتخاذه مبررا من جانب الحكومة الأمريكية للقيام بأعمال أكثر بشاعة فى أفغانستان ثم فى العراق، واتخاذه مبررا أيضا لشن حملة شعواء لتشويه سمعة العرب والمسلمين، اتخذت أيضا من جانب إسرائيل لتبرير أعمال القتل والتعذيب للفلسطينيين.
كان لفظ «الإرهاب» قد بدأ استخدامه قبل الحادث، ولكنه بعد 11 سبتمبر أصبح شعار العصر، تشن الحروب باسمه، وتبرر باسمه سياسات القمع الداخلى، حتى فى داخل الولايات المتحدة نفسها، ويبرر باسمه أيضا الاستمرار فى إنتاج وبيع الأسلحة على الرغم من زوال الخطر الشيوعى، وشاع ترديد لفظ الإرهاب فى وسائل الإعلام حتى صدق الناس أنه ظاهرة حقيقية وخطيرة، على الرغم من أنه لفظ بالغ الغموض وخال من المضمون، ويمكن استخدامه لوصف أى عمل لا يعجب القائمين «بمكافحة الإرهاب».
لم يستغرق التحقيق فى الحادث أكثر من ساعات قليلة «بفرض أن كان هناك أى تحقيق علي الإطلاق» أعلنت بعدها أسماء وصور المتهمين بهذا العمل، فإذا بهم كلهم إما سعوديون أو مصريون، وكانت الأدلة المعلنة على هذا الاتهام من الضحالة والسخف، بحيث وصفت بعد قليل فى تقرير قانونى بريطانى بأنها لا تكفى حتى لتقديم أى شخص للمحاكمة، ناهيك عن إدانته.
مما أذكره أنه بعد 11 سبتمبر بأيام قليلة، أدلى الرئيس حسنى مبارك تصريح مؤداه إنكار ما تزعمه الإدارة الأمريكية من أن الذين قاموا بتفجيرات نيويورك وواشنطن هم من العرب أو المسلمين. وبعد هذا بيوم أو يومين نشرت جريدة الأهرام المصرية مقالا لأستاذ مصرى بكلية الهندسة يشرح فيه كيف أن من الممكن جدا أن يكون تفجير الطائرات قد تم بعمل من الأرض وليس بعمل إرهابيين من داخل الطائرة، ولكن الرئيس المصرى سافر فجأة إلى فرنسا لمحادثات مع الرئيس الفرنسى، ومنذ ذلك التاريخ لم ينبس أى مسئول مصرى بأى تصريح ينكر فيه التفسير الرسمى الأمريكى للأحداث، كما امتنعت وسائل الإعلام الرسمية فى مصر عن ذكر أى تفسير يتعارض مع هذا التفسير، صراحة أو حتى بمجرد التلميح.
لم يستمر تصديقى للرواية الرسمية لأحداث 11 سبتمبر أكثر من يوم واحد، استقر رأيى بعده على أنه لا العرب ولا المسلمون هم الذين ارتكبوا هذا العمل أو خططوا له. إذ بدت لى أسباب واضحة كالشمس تلقى بالمسئولية على غيرهم. لم يظهر لى أى سبب وجيه لتصديق ما تقوله الإدارة الأمريكية ووسائل الإعلام المسايرة لها، لا قدرات المتهمين الشخصية على ارتكاب هذه الأعمال الجهنمية، ولا شخصية المستفيدين الحقيقيين من هذه الأعمال، ولا السرعة التى تم بها توجيه الاتهامات رغم خطورة ما حدث، ولا ما عرفناه بعد هذه الأحداث من معلومات عن مشروع القرن الأمريكى الجديد الذى ذكرت فيه حاجة الولايات المتحدة الماسة إلى حدوث حادث من هذا النوع، ولا ما تبع الأحداث مباشرة من استعدادات للهجوم على أفغانستان، ثم على العراق، دون ظهور علاقة بين أحداث سبتمبر وهذين الهجومين، مع إصرار الإدارة الأمريكية على وجود هذه العلاقة.. إلخ.
******
تلقيت دعوة بعد 11 سبتمبر بخمسة أسابيع لالتقاء السفير الأمريكى «الذى رقى فيما بعد إلى وظيفة مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس» بمنزل الملحق الثقافى الأمريكى بالقاهرة «فى 22 أكتوبر 2001»، مع عدد لا يزيد على أربعة أو خمسة من الكتاب المصريين، وذهبت متشوقا لسماع ما يمكن أن يكون السفير راغبا فى قوله للمثقفين للمصريين.
وقد علمت فيما بعد أن مثل هذا اللقاء قد تكرر بين السفير ومجموعة صغيرة بعد أخرى من المثقفين والكتاب. ولم يكن من الصعب اكتشاف الغرض من هذه الدعوات. فقد خرجت من هذا اللقاء مقتنعا بأن توجيهات جاءت إلى السفير الأمريكى فى القاهرة، ولابد أن مثلها قد وجهت إلى سفراء الولايات المتحدة فى عواصم كثيرة أخرى، خاصة العواصم العربية والإسلامية، مضمونها أن من الضرورى إفهام الكتاب والصحفيين ممن يمكن أن يتناولوا أحداث 11 سبتمبر بالتعليق والتفسير، أن الحكومة الأمريكية لن تقبل بأى حال أى تفسير لهذه الأحداث يتعارض مع تفسيرها. وقد دعم ما رأيته من شدة لهجة السفير وحدته وقسوته فى الكلام معنا، اعتقادى بصحة هذا التفسير الذى وصلّته إليه، والذى يتعارض تماما مع التفسير الأمريكى الرسمى. فى اليوم الثانى لهذا اللقاء بالسفير الأمريكى دونت ملخصا لما دار من نقاش، وفيما يلى بعض ما دونته.
بدأ السفير كلامه بقوله: «ما الذى يمكن أن تطلبوا من سفير الولايات المتحدة أن يفعله فى هذه الظروف التى تمر بها؟ ما تفسيركم لكون هذه المنطقة «يقصد العربية»، دون أى منطقة أخرى فى العالم، تتخذ هذا الموقف المدهش والمرفوض تماما، مما حدث «يقصد الحادث الإرهابى». فعندما يموت كل هذا العدد الكبير من الناس فى 11 سبتمبر، لا يبدو منكم أى تعاطف، ولكن عندما تسقط بضع قنابل، عن طريق الخطأ، على المدنيين فى أفغانستان، تجدون فى هذا عملا فظيعا لا يمكن أن يغتفر.
كذلك فإنكم لا تبدون أى تعاطف إزاء مقتل عدد من الشباب الصغار فى ملهى للرقص فى إسرائيل «بأعمال إرهابيين».
طوال عشر سنوات من أعمال العنف فى أفغانستان، التى وقعت فى أعقاب انسحاب الاتحاد السوفييتى من هناك، وتقتيل الناس بعضهم بعضا «وكذلك فى الجزائر»، لا يصدر عنكم أى شجب أو تعبير عن الغضب، ولا تفعلون أى شىء للتعبير عن إدانة هذه الأعمال، ولكن عندما نتدخل نحن، تتصرفون وكأن هذه نهاية العالم.
نعم، إنى أعترف أننا «أى الولايات المتحدة» نتصرف أحيانا وكأننا نكيل بكيلين، ولكنكم أيضا تفعلون نفس الشىء».
قلت له، بعد أن بقيت صامتا مدة طويلة أستمع فيها إلى ردود الآخرين:
«إنكم دولة عظمى، وتتصرفون باعتباركم كذلك، وأنا لن أحاول إلقاء مواعظ «حول كيف يجب أن تتصرف دولة عظمى»، ولن أقول أن عليكم مراعاة المبادئ الأخلاقية فى تصرفاتكم. فليس هناك دولة عظمى تفعل هذا، لا فى الحاضر ولا فى الماضى، ولكنى سأقول فقط إن توحدكم التام مع إسرائيل جعلنا، نحن العرب والمسلمين، ندفع ثمنا باهظا، إنكم تشهرون بنا، وتشوهون سمعتنا أمام العالم كله، لمجرد أن هذا يخدم مصالح إسرائيل.
إننا شعب كريم وطيب، ونحن آخر من يغتبط بمصائب الآخرين.. ولكن كيف يكون شعورنا إزاء أحداث 11 سبتمبر؟ فى نفس وقت وقوع هذه الأحداث ارتكب الإسرائيليون أعمالا فظيعة ضد الفلسطينيين، ليس فى الشهر أو الأسبوع السابق بل فى نفس الوقت، وننظر فنراكم تقفون دائما فى صف إسرائيل، ما الذى يمكن أن تتوقعوا أن نشعر به؟ إن العقل الإنسانى لا يعمل فى جانبين مختلفين: جانب يتعامل مع ما يحدث للفلسطينيين، وآخر مع ما يحدث للأمريكيين، لا يمكن الفصل بين الاثنين.
إنكم تسيطرون على وسائل الإعلام، ليس فقط فى داخل الولايات المتحدة بل فى العالم كله، وقد استخدمتم ذلك لتشويه سمعتنا، نحن العرب والمسلمين.
إنى لا أصدق أن بن لادن هو الذى فعل هذا. إن «الأدلة» التى قدمتموها «لإثبات» ذلك لا تكفى حتى لتقديمه للمحاكمة، ناهيك عن إدانته. «هنا أضاف مصطفى كامل السيد ووليد قزيها، أستاذ العلوم السياسية، أن التسعة عشر شخصا الذين اتهموا بتنفيذ الانفجارات ثبت أن بعضهم لازال على قيد الحياة».
إنى أعتقد فيما يسمى «بنظرية المؤامرة»، ولا يمكننى أن أشرح لك ما أقصده بذلك بالضبط أثناء تناولنا العشاء «قال المضيف ضاحكا: ربما أثناء تناول القهوة!».
ما هذا الذى تقولونه عن «أشخاص» شلهم ملامح شرق أوسطية؟» إن أى شخص له «ملامح شرق أوسطية» تعتبرونه مجرما «باستثناء الإسرائيليين بالطبع». هذا موقف عنصرى مائة فى المائة.
ما الذى تتوقعون أن يشعر به رجل الشارع فى مصر عندما يراكم تلقون بالقنابل على المسلمين، وتهددون العراق ولبنان وسوريا.. إلخ، وهم أشقاؤه العرب والمسلمون؟ طبعا لابد أن يشعر أهل «هذه المنطقة» شعورا مختلفا عن شعور الآخرين، لأن فى هذه المنطقة يعيش العرب والمسلمون.
هل خطر ببالك مرة أن الأعمال الإرهابية التى تحدث فى مصر قد تكون من فعل الموساد؟ خذ مثلا مذبحة الأقصر «1997». إن المصريين لا يمثلون بالجثث بعد قتل أصحابها.
أو خذ حادث الاعتداء على نجيب محفوظ، إنه آخر شخص يمكن أن يثير غضب المتطرفين الإسلاميين، والمطلوب منا أن نصدق أنه اعتدى عليه بسبب رواية نشرها فى 1959 «أى قبل الاعتداء عليه بخمسة وثلاثين عاما»، وهو بالمناسبة لم يسمح بإعادة طبع الرواية منذ ذلك التاريخ. ولكنه بالطبع كان وسيلة ممتازة للتشهير بالعرب والمسلمين فى عيون العالم كله، إذ وقع الحادث فى نفس اليوم الذى أعلنت فيه جوائز نوبل، وكان محفوظ قد حصل على نفس الجائزة قبل ذلك بسنوات قليلة.
كيف ينتقد السيد الملحق الثقافى «الذى كان حاضرا» المثقفين المصريين لأنهم يقاطعون مقهى فى وسط البلد «كان قد ذكر مقهى بجوار مطعم الجريون، هل يقصد مقهى ريش؟» وهو الذى بدأ يقصده إسرائيليون من محبى السلام؟ ما الذى يتوقعه الملحق الثقافى؟ إن قليلين جدا من المصريين هم من يعتقدون أن هناك شيئا اسمه «إسرائيلى محب للسلام»، إذا عرفنا السلام تعريفا معقولا. «هنا اعترض د.طه عبدالعليم قائلا إن 50٪ من الإسرائيليين يريدون السلام، فرددت عليه بأنه واحد من هؤلاء المصريين القليلين جدا الذين يصدقون هذا، أنت ولطفى الخولى. تدخل هنا د.مصطفى كامل السيد قائلا إن جميع الإسرائيليين تقريبا يؤيدون شارون».
ما هى المعاملة التى يتوقع الملحق الثقافى منا أن نعامل بها الإسرائيليين وهم الذين سمموا كل جوانب حياتنا «السياسية والاقتصادية والثقافية» لمدة تزيد على خمسين عاما؟.
بعد انتهاء العشاء، حاولت أن ألطف الجو قليلا فحكيت للسفير قصتى مع أستاذى الإنجليزى ليونيل روبنز، أثناء دراستى فى لندن، عندما بدأت أنتقد له السياسة الإنجليزية وكيف أدت إلى تعطيل التصنيع فى مصر فى فترة الاحتلال فأجابنى روبنز بقوله «إن هذا ليس صحيحا على الإطلاق، لقد كنت أعمل وقتها فى وزارة الخارجية البريطانية ولم يحدث بالمرة شىء كهذا!». «كنت أقصد برواية هذه القصة للسفير الأمريكى أن أقول له إن أشخاصا طيبين للغاية ــ مثل روبنز مثلا ــ وربما مثله هو أيضا ــ قد لا يكونون واعين بالمغزى الحقيقى لما تفعله حكوماتهم بشعوب أخرى، رغم وظائفهم التى يظنون أنها قريبة من مراكز صنع القرار».
رويت له أيضا نكتة أخرى عن الفرق بين العمل الإرهابى وغيره، وهى أن الشخص إذا ضرب أحد المبانى من الجنب فهو إرهابى، ولكنه ليس إرهابيا إذا ضربه من فوق!.
قرب نهاية اللقاء قال السفير:
«إذا كان هذا هو شعور الناس فى هذه المنطقة، فيجب أن تتوقعوا أن يجرى عزلهم «Being isotated» عن بقية العالم.. «كان هذا تهديده الأول».
وأضاف:
«إذا كان الأمر كذلك إذن، فإن على أن أنصح حكومتى بأن تسعى لحل المشكلة الفلسطينية ثم تنسحب بعد ذلك تماما إلى داخل حدودها، ولا يكون لها شأن بالمرة بعد ذلك بهذه المنطقة.. «يقصد المساعدات الاقتصادية.. إلخ» «كان هذا هو تهديده الثانى».
الذى أدهشنى جدا أننا قبيل انصرافنا، وبعد أن قلت له نكتتى عن الإرهاب، اقترب منى وهمس فى ذهنى قائلا إنه لو لم يوجد سيدات فى الغرفة لقال لى نكتة لطيفة عن بن لادن، ولكنها ليست نظيفة تماما!، قلت لنفسى إنه على الرغم من كل شىء إنسان طيب، ولا يختلف كثيرا عن غيره من الناس.