تدفعنا الحالة الإعلامية المحمومة التى نعيشها إلى الاهتمام البالغ أحيانا بقضايا ضعيفة الشأن وقليلة التأثير على حياة الناس ــ مثلما انشغلنا لعدة أسابيع بمتابعة أخبار قناديل البحر فى البحر المتوسط ــ بينما تمر علينا أحداث أخرى بالغة الأهمية مرور الكرام ولا تأخذ حظها الكافى من التحليل والتقييم حتى لو ازدحمت بها نشرات الأخبار ليوم أو اثنين دون تعمق كافٍ فيما تحمله من معانٍ وما تقدمه من فرص للمستقبل.
من هذه القضايا المهمة ما يطلق عليه «الشمول المالى» والذى ينعقد هذا الأسبوع بشأنه مؤتمر عالمى فى مدينة «شرم الشيخ» بتنظيم ورعاية البنك المركزى المصرى وبحضور عشرات المؤسسات المالية المصرية والدولية. ومع أننى لست حاضرا للمؤتمر إلا أننى مقتنع بأن موضوعه من الأهمية بما يجعله يستحق أن يتحول إلى قضية عامة تتجاوز المصرفيين والخبراء الماليين وتجد موقعها على الساحة العامة للتفكير والجدال على نطاق واسع.
والشمول المالى ببساطة هو الاتجاه لجعل الخدمات المالية والمصرفية متاحة لأكبر عدد ممكن من المواطنين والحد من القيود القانونية والاجتماعية والثقافية التى تحول دون الاستفادة من تلك الخدمات على نطاق واسع فى المجتمع. وراء هذا الاتجاه العالمى الاعتقاد بأن تحقيق تنمية اقتصادية عادلة ومستدامة يتطلب فتح جميع قنوات المشاركة الاقتصادية وتمكين أصحاب الموارد والدخول المنخفضة من التمتع بما تتيحه الخدمات المالية والمصرفية من فرص للتمويل والاستثمار والتشغيل. وفى غياب الشمول المالى، أى فى ظل مناخ وقيود تعيق استفادة كل فئات الشعب من الخدمات المالية والمصرفية، فإن الاقتصاد يكون أقل كفاءة، والمنافسة مقيدة، والفرصة للحراك الاجتماعى محدودة. ولهذا أصبح مؤشر الشمول المالى من المؤشرات المهمة لقياس التنمية الشاملة فى مختلف بلدان العالم.
الفكرة ليست جديدة، وجرى الحديث عنها فى العالم طوال العقد الماضى على الأقل، ولكن ما جعلها تتصاعد فى الأهمية أخيرا عدة عوامل، على رأسها الطفرة التى لحقت بمجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات فصار من الممكن الاعتماد على الوسائل الحديثة لتجنب السفر والانتقال والتعاملات الورقية والسداد النقدى، والأزمات المالية العالمية المتكررة التى دفعت إلى اعادة النظر فى كثير من الأفكار التقليدية حول المصارف والتمويل والمخاطر المرتبطة بهما، والتحرك لفتح جميع مجالات المشاركة وكسر الحواجز الاجتماعية والثقافية فى المجتمع الحديث بشكل عام سواء فى مجال التمويل أو فى غيره. وبهذا المعنى فإن الشمول المالى أحد أشكال الديمقراطية الاقتصادية التى يكون لكل مواطن فيها جميع الحقوق والفرص المتاحة لغيره ولا يجوز معها التمييز أو الإقصاء.
ولكن يقابل ذلك عوامل أخرى تعرقل نجاح حركة الشمول المالى، وكلها مما تعانى منه مصر فى الوقت الراهن. من ذلك أن القوانين الصادرة فى العقدين الماضيين كانت تميل نحو التركيز على مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وغيرهما من الجرائم المالية بما يتعارض مع الاتجاه للتبسيط والتيسير ورفع القيود، وعدم اهتمام المصارف والمؤسسات المالية بجذب صغار المدخرين والمستثمرين فى ظل توافر قنوات مضمونة ومجزية لتوظيف أموالها خاصة من خلال تمويل الدين العام، وصعوبة تطويع النظم واللوائح والقوانين المنظمة للنشاط المصرفى والمالى كى تتناسب مع احتياجات وظروف قطاع كبير من الأنشطة غير الرسمية وغير المسجلة، وأخيرا وليس آخرا الانحياز الثقافى غير المعلن فى المؤسسات المالية حيال من لم يعتادوا التعامل معهم من الجمهور الواسع.
كذلك فإن المقصود بالشمول المالى لا ينبغى أن يقتصر على مجرد دخول فرع البنك والحصول على قرض بسهولة أو استخراج بطاقة ائتمان، بل يجب أن يمتد إلى الشمول الحقيقى الذى يتضمن الحصول على معلومات كافية عن السوق أسوة بكبار المستثمرين والمودعين، والتمتع بحماية قانونية كافية، والاستفادة بالموارد والخدمات والفرص المتاحة فى البلد عموما، لأنه بغير كل هذا فإن الشمول المالى يتحول إلى مجرد توفير للتمويل السهل دون باقى ظروف نجاح استخدامه وبالتالى الوقوع فى شرك الدين والإفلاس والمزيد من الفقر.
هذه هى نوعية المشكلات والقضايا التى أتمنى أن يتوجه اليها مؤتمر شرم الشيخ ويقدم لها حلولا جريئة ولا يكتفى برصد الظاهرة وتكرار أهمية التصدى لها. فالشمول المالى ليس قضية فنية تهم المصرفيين والخبراء الماليين وحدهم، بل قضية اجتماعية وتنموية فى المقام الأول، وهو أيضا موضوع سياسى لأنه تعبير عن حق كل مواطن فى المشاركة فى النشاط الاقتصادى، كما أنه مفتاح رئيسى لتفعيل الحراك الاجتماعى الذى يحتاج إليه كل مجتمع كى يصح وينمو.