يعد الأستاذ سيد قطب من الأدباء المشهورين فى تاريخ مصر وهو صاحب أسلوب أدبى متميز، وهو الذى اكتشف نجيب محفوظ وتنبأ بمستقبل أدبى باهر له، ومن أشهر كتبه «فى ظلال القرآن».
سمى قطب كتابه «فى ظلال القرآن» ولم يسمه تفسير القرآن، ولكن المصيبة الكبرى أن أكثر الجماعات التى تأثرت بالكتاب أخذت كل ما كتبه قطب على أنه قرآن منزل أو أحكام فقهية أو عقائدية متفق عليها أو مجمع عليها، ويا ويل من يناقشها، فأخذوا ينزلون كلمات قطب على مجتمعهم وحكوماتهم ودولهم بطريقة خاطئة، ويتعاملون معها تعامل المعصوم، دون أن يفرقوا بين الإسلام المعصوم بقرآنه وسنة نبيه وبين الفكر الإسلامى غير المعصوم الذى يصدر من أى عالم أو مفكر يخطئ تارة ويصيب أخرى.
وأصبح أكثر الحركيين الإسلاميين وجماعات العنف تأخذ أجزاء من كلام قطب وتستدل به على أخطر القضايا وأصعبها، والتى قد يترتب عليها إراقة الدماء ومئات الضحايا دون أن يوجه نقد حقيقى لأفكاره وإذا تم ذلك من أحد شتموه وأهانوه وأهالوا عليه التراب، وكأن كلامه لا يجوز لأحد مناقشته أو مخالفته.
وإذا ناقشته تواجه بكلمات: أين أنت من الشهيد قطب؟ هل ضحيت مثله، هل بذلت بذله فإذا أعدتهم للقضية الفكرية عادوا إلى نفس المربع وهكذا، وكأنهم أنزلوا كلماته العامة الفضفاضة منزلة الوحى المنزل الذى لا يجوز لأحد مناقشته، بل إن الوحى يختلف الفقهاء والمفسرون فى شرح معانيه وتأويل كلماته.
والغريب أن معظم هؤلاء يعظم قطب تعظيما كبيرا لا يناله أحد من الأئمة الأربعة أو فقهاء الإسلام العظام المشهود لهم بالعلم والفضل.
وبعضهم يقدسه ويسخر من فقهاء الإسلام الأوائل، فشكرى مصطفى وأتباعه كانوا يسخرون من العلامة ابن كثير ويقولون عنه «ابن قليل» ويسخرون من النووى باعتباره العدو الأول لهم ولفكرهم وخاصة فى كل ما كتبه فى باب «الإيمان» فى شرح صحيح مسلم.
وقد تعلم شكرى مباشرة على يد المجموعة القطبية فى السجن الحربى وكان يكفر الشعب المصرى كله، وكذلك أبو بكر البغدادى زعيم داعش استقى فكره الرئيسى من كتاب فى ظلال القرآن الذى قرأه عشرات المرات فى سجن «أبو غريب» ببغداد، وتأثر به تأثرا شديدا وحاول تطبيق معظم أفكاره فى منظومته الداعشية.
أطلق سيد قطب تعبير «الاستعلاء بالإيمان» كثيرا، وهذا المصطلح غامض جدا، ولم يستخدمه أحد من علماء المسلمين من قبل على الإطلاق، وهل الإيمان يدعو للاستعلاء على الآخر غير المؤمن أو غير مسلم أم يدعو للتواضع للناس جميعا، والانكسار لرب الناس.
وقد هالنى أن أكثر الشباب الذى يقرأ كتاب فى الظلال «يعجبه هذا المعنى ويروق له، ويخلط بينه وبين الكبر على من يخالفه فى الدين أو الفكر أو الرأى بحجة الاستعلاء بالإيمان، ويقع فى العلو المذموم على الناس وهو يظن أنه يرتفع بالإيمان، فبين الاعتزاز والاستعلاء بالإيمان والعلو بالذات شعرة دقيقة لا يدركها إلا أولو البصائر وأصحاب القلوب الصافية النافية، وحتى لفظة الاستعلاء هذه سيئة، والأفضل منها الاعتزاز بالدين والتمسك به.
فقد استقبل رسول الله عدى بن حاتم الطائى فى بيته المتواضع وكان مسيحيا فأعطاه الوسادة الوحيدة فى بيته الشريف وجلس عليه السلام على الأرض وهو رئيس الدولة وخاتم المرسلين حتى قال عدى فى نفسه «ليس هذا بملك.. هذا نبى».
وهذا الإطلاق المتكرر لمعنى الاستعلاء بالإيمان جعل الكبر يتلبس كل من تدين تدينا بسيطا بحيث يستطيل بذلك عل كل مخالفيه دون شعور بالذنب، أو هو يظن أنه يحسن عملا، ولا يدرك أنه وقع فى الكبر المذموم الذى نهت عنه كل الشرائع السماوية ومنها الإسلام.
مصطلح «الاستعلاء بالإيمان» غريب فى صكه، فالاستعلاء مرفوض فى كل الشرائع حتى لو كان هذا الاستعلاء بالعلم أو الفقه أو الإيمان أو الصدقات أو الصلوات.
فالإيمان يدعو صاحبه للتواضع وخفض الجناح، وكلما زاد الإيمان فى قلب صاحبه ازداد خوفا من الله وانكسارا له سبحانه وتواضعا للناس، وخوفا من عدم القبول عند الله.
فالمؤمن لا يأمن مكر الله وإن كانت إحدى قدميه فى الجنة والأخرى خارجها، كما قال أبو بكر الصديق «رضى الله عنه» وهو من هو فى الفضل والتقوى والسبق: «لو كانت إحدى قدمى فى الجنة والأخرى خارجها ما أمنت مكر الله» وكما فسر رسول الله «صلى الله عليه وسلم» قوله تعالى : «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَهُمْ إِلَىٰ رَبِهِمْ رَاجِعُونَ» فقد فهمتها عائشة بظاهر النص أنها تخص أهل المعصية الذين يشفقون على أنفسهم من المعاصى، ولكن الرسول «صلى الله عليه وسلم» صوب لها ذلك بقوله: «لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يقبل منهم «أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ».
وهذا عمر بن الخطاب «رضى الله عنه» وزير رسول الله الثانى والمبشر بالجنة يخاف على نفسه من النفاق ولا يفكر إلا فى التواضع وليس الاستعلاء بالإيمان.
تعبير الاستعلاء بالإيمان دخيل على المنظومة الشرعية الإسلامية ومصطلحاتها التى صكها الصحابة والتابعون والأئمة الأربعة وتلاميذهم الكبار من نور الوحى وذكاء الفهم وضياء البصيرة، وكذلك أى مصطلح يقترب منه لم يدشنوه مثل «الاعتزاز بالإيمان أو الفخر بالإيمان» لأن الخلط الكبير سيحدث لا محالة فى نفس الشاب حديث التدين بين الاستعلاء بالإيمان والعلو بالذات.
فبين الاستعلاء بالإيمان والعلو بالذات شعرة دقيقة قد تختلط على العلماء والفقهاء مع أنفسهم وفى دواخلهم، فضلا عن الشباب حديث التدين قليل العلم عديم الخبرة كثير الاندفاع المشحون بالحماسة دون التدقيق فى الفواصل بين الأمور التى هى أصلا من آفات القلوب وأمراضها.
والناس تسير إلى الله بقلوبها، والخلل يأتى فى البداية من القلب ثم ينطلق سريعا إلى الجوارح التى تتكبر على الخلائق تحت مظلة كاذبة هى الاستعلاء بالإيمان، وتستطيل على الآخرين خاصة المختلفين معهم فى الدين أو العرق أو المذهب.
وحينما تغمر الشاب الصغير كلمات الاستعلاء بالإيمان قد يرى نفسه فى لحظة خاطفة لنفسه وقلبه أفضل من الآخرين، فيحتقر العصاة ولا يرحمهم ويقسو عليهم ويتمنى هلاكهم بدلا من هدايتهم، ولا يتصور أن يكون يوما مثلهم.
وقد تتلبسه حينها العصمة الكاذبة التى يغذيها معنى الاستعلاء بالإيمان، ويدور حول ذاته أو جماعته وحزبه وهو يظن أنه يدور مع الشريعة وحولها، ويغتر بنفسه ويحلق بذاته فوق الناس تباهيا وشموخا ظنا منه أنه بذلك يستعلى بإيمانه.
ويحتقر الآخر ويزدريه، ويعتقد فيه الباطل دوما ويعتقد فى نفسه وجماعته الحق المطلق والحقيقة المطلقة والصواب الأبدى، انطلاقا من هذا المعنى.
ولا يلوم نفسه أو جماعته على خطأ وقع فيه أو منهم بل يلوم الآخرين دوما، لأن لديه الإيمان ولديهم الكفر ولديه الحق وعندهم الباطل ولديه اليقين ومعهم الظن.
ويظن دوما أن الله معه دون سواه وأن الله وليه دون سواه وأنه يحمل الحق الحصرى وأن الآخرين يدورون فى الباطل المطلق.
فلا يعترف بنقص لديه ولا يعترف بصواب أو خير لدى غيره ويعتقد جازما القبول لكل ما صنعه من خير ولا يعيش أبدا بقلبه وجوارحه مع الصحابة الذين حكى عنهم ابن أبى مليكه قائلا فيما رواه البخارى عنه: «أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله كلهم كان يخشى النفاق على نفسه» رغم أنهم أكمل الأمة إيمانا وأكثرهم يقينا وأصفاهم قلوبا وأنقاهم نفوسا ويكفيهم صحبتهم رسول الله صلى عليه وسلم وشهودهم لوحى السماء وشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم.