كان لابد أن أهتم، كما لابد أن اهتم كثيرون غيرى، بظهور مقال للأستاذ طارق البشرى منذ أيام قليلة (جريدة الشروق 7/11/2011) بعنوان «فى الجدل حول المدنية والدينية». فالمقارنة بين هذين النوعين من الدول من أهم موضوعات الساعة فى مصر، والجدل محتدم بين أنصار هذه الدولة أو تلك، ويصل أحيانا إلى درجة عالية من الحدة.
والأستاذ طارق البشرى معروف بانتصاره لما يعرف بالتيار الدينى، ولعب دورا مهما فى الشهور الأولى للثورة بعد تعيينه رئيسا للجنة تعديل الدستور، ولكنه معروف أيضا بالاتزان والوقار، فضلا عن سمعته الممتازة كقاض فى مجلس الدولة، صدرت منه أحكام قوية تنتصر للحرية والديمقراطية، وتتحدى النظام السابق الذى أسقطته ثورة يناير. وحيث إن الأستاذ البشرى مقل أيضا فى أحاديثه ومقالاته، فلابد أن نهتم بظهور مقاله عسى أن يضع به النقاط فوق الحروف، فيتضح الغامض، بل وربما ارتاحت به النفوس وهدأت الخواطر.
لابد أن أصارح القارئ مع ذلك بأننى، رغم اهتمامى بظهور المقال، كنت أشعر ببعض الخوف قبل أن أشرع فى قراءته، من ألا أحصل من مقاله على شىء من هذا: لا توضيح الغامض ولا تهدئة الخواطر. وذلك لعدة أسباب. منها ما لاحظته من متابعة التطور الفكرى للأستاذ البشرى خلال الأربعين عاما الماضية، من أنه يسمح لنفسه بالتأثر أكثر من اللازم، فى رأيى، بمشاعر الجماهير واتجاهاتهم. ومن ثم بدا لى أن هناك احتمالا قويا لأن يخضع هذه المرة أيضا لاتجاهات الجماهير، خاصة أنها، منذ قامت الثورة، تزداد قوة وجرأة فى التعبير عن مشاعرها. من الأسباب أيضا ما ألاحظه عادة على كتابات الأستاذ البشرى منذ فترة، بأنها تتسم بدرجة من التعقيد، قد لا يكون ثمة خطر كبير فيها (إذ يمكن للمرء أن يزيد فهمه لعباراته بمعاودة قراءتها أكثر من مرة)، لولا أن الموضوع الآن يحتاج إلى درجة أكبر من الصراحة والوضوح، والتعبير المباشر عما يقصده الكاتب منعا لإثارة الظنون وتعدد التفسيرات لما يكتبه. أعترف أيضا بأننى بعد أن قرأت المقال تأكدت مخاوفى، بل وأضيفت إليها أسباب جديدة للأسف.
●●●
المقال يبدأ بداية غير متوقعة، إذ اقتطف قصة رواها الشاعر جلال الدين الرومى عن رجل أحول نظر إلى إبريق فظنه إبريقين، فلما كسر الإبريق ظنا أنه يحتفظ بإبريق آخر تبين أنه ليس هناك غير هذا الإبريق المكسور. وقال الأستاذ البشرى إن حالتنا فى محاولة الاختيار بين الدولة الدينية والدولة المدنية، تشبه موقف ذلك الرجل الأحول، إذ ليس هناك فى الحقيقة إلا شىء واحد، أى دولة واحدة، دينية ومدنية فى نفس الوقت، فإذا ضحينا بإحداهما (كالدولة الدينية مثلا) فإننا نضحى أيضا بالأخرى (أى المدنية) ونتيجة لذلك ظهر عنوان فرعى للمقال بخط كبير هو: «لا نختار بين الدولة المدنية والدولة الدينية لأنهما شىء واحد»، استغربت هذا الكلام جدا، فقد كنت (ولا أزال) أعتقد أن الجدل الدائر حول هذه القضية جدل حول قضية حقيقية وليست متوهمة، وخوف أحد الفريقين من أن ينتصر الفريق الآخر خوف حقيقى له دوافعه المفهومة. فما هذا الكلام إذن عن أن الدولة الدينية هى أيضا دولة مدنية؟
إننى أفهم أنه عندما يحتدم النقاش بين شخصين يختلفان فى الرأى، علينا أن نكتشف ما الذى يقصده بالضبط كل من الشخصين من كلامه ومصطلحاته، لكى نكتشف أوجه الاعتراض الحقيقى لدى كل منهما على رأى الآخر. فإذا كان الاختلاف مثلا حول ما إذا كانت الدولة الدينية أفضل أم المدنية، فمن الواجب أن نحاول أن نحدد بالضبط ما الذى يفهمه أنصار كل منهما بتعبير الدولة الدينية أو الدولة المدنية، فلا نقوم نحن بتقديم تعريف لكل منهما كما نشاء، وينتهى الأمر بالقول: وهكذا ترون أنه لا خلاف هناك فى الحقيقة، لأن الدولتين فى الواقع دولة واحدة!» ليس هكذا، فيما أظن، تُحل الخلافات وتهدأ النفوس. ونحن نعرف جيدا أن مفهوم الدولة الدينية فى نظر الرافضين لها، هو أن يجرى تبرير القوانين والإجراءات باقتطاف نصوص مقدسة، بعكس الدولة المدنية التى يمتنع فيها إقحام الدين فى شئون الحكم، دون أن يعنى هذا بالضرورة معاداة الدين أو تعطيل ممارسة الشعائر الدينية والعبارات. بل قد تعتبر الدولة المدنية من واجباتها توفير الوسائل التى تضمن قيام أصحاب كل دين بممارسة شعائرهم وعباداتهم، على أساس أن هذا من حقوق الإنسان، مثل حقه فى الحياة والحرية.
هذا التحديد لمعنى الدولة الدينية والمدنية يتفق، فيما يبدو لى، مع الفهم السائد الآن فى الجدل الدائر حول أفضلية هذه الدولة أو تلك، وهناك حجج كثيرة يمكن أن تقال لصالح هذه الدولة أو تلك، ولكن ليس هذا موضوعى الآن. الذى أقصده هو أن الأستاذ طارق البشرى قد أخطأ بتصوير الأمر وكأنه لا يوجد فرق فى الحقيقة. كيف وصل الأستاذ البشرى إلى هذه النتيجة؟. وصل إليها عن طريق تقديم تعريف مدهش لكلتا الدولتين. يقول بالنص:
«إذا كانت (المدنية) فى الاستخدام الجارى الآن مقصود بها لدى من يستخدمونها ويدعون إليها الاهتمام بالصالح الدنيوى للجماعة الوطنية، فهى طبعا لابد منها لانتظام الجماعة. وإذا كانت (الدينية) فى الاستخدام الجارى الآن تعنى الأصول الثقافية المرجوع إليها مما يسود لدى الجماعة البشرية الوطنية ويحفظ لها قوة تماسكها فهى لازمة وضرورية أيضا».
وأنا لا أتفق بالمرة مع طريقة الأستاذ البشرى فى هذا التعريف «للاستخدام الجارى». فهذا التعريف للدولة المدنية «الاهتمام بالصالح الدنيوى»، ليس هو تعريفها «فى الاستخدام الجارى الآن»، بل يشمل هذا التعريف أنها دولة لا تقحم الدين فى تعريف ما هو الصالح الدنيوى. وكذلك لا أتفق معه فى أن تعريف الدولة الدينية بأنها «الأصول الثقافية المرجوع إليها الآن.. إلخ» هو تعريفها فى الاستخدام الجارى الآن، بل يشمل هذا التعريف أن تكون النصوص الدينية ليست فقط المرجع فى تحديد «الأصول الثقافية» بل وأيضا فى تحديد الصالح الدنيوى إذا كان الأمر كذلك فالخلاف موجود وحقيقى، ولا جدوى من الزعم بعدم وجوده.
إن موقف الأستاذ البشرى من هذه القضية يجلب إلى ذهنى حالة زوجة رفعت دعوى ضد زوجها طالبة الطلاق، بسبب اعتياده ضربها وتعذيبها بشتى الطرق. وقامت بتقديم الأدلة على ذلك. فإذا بالقاضى يرفض التطليق على الأساس الآتى:
إن الزواج فى الأصل القصد منه إنشاء علاقة سلام ومودة وتراحم بين الزوجين، مما لا يتصور معه ضرب أحد الطرفين للآخر أو تعذيبه. ومن ثم فلابد من التعايش السلمى بين الزوجين، وهو ما يفترض استمرار الزواج!
●●●
إن هذا هو جوهر اعتراضى على مقال الأستاذ البشرى، ولكننى أرى فى ثنايا المقال أشياء أخرى لا تخلو من خطورة، ولا أدرى ما إذا كان الكاتب متنبها إليها. فبصرف النظر عن خطأ اعتبار الدولة الدينية والدولة المدنية دولة واحدة فإن المقال يمرر بذلك موافقته على قيام شىء واسمه «الدولة الدينية» بتعريف أو آخر. وهذا كلام يكاد يكون جديدا على الجدل القائم الآن فى مصر. فالرافضون لشعار الدولة المدنية، والمنتصرون لإخضاع السياسة للدين، يحاول أغلبهم تجنب استخدام لفظ «الدولة الدينية» وينفون نفيا قاطعا أن الإسلام عرف الدولة الدينية فى أى فترة من تاريخه، وما أكثر من يقطفون القول المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم «أنتم أعلم بشئون دنياكم». فالدين إلهى ولكن الحكم بشرى، والحاكم أيا كانت منزلته يمكن أن يخطئ أو يصيب فى تفسير النصوص المقدسة ولكن ها هو المستشار البشرى، وهو من هو، يقول ما معناه أنه لا بأس من الدولة الدينية، فيعطى دعما، من حيث يدرى أو لا يدرى، لمن يمكن أن ينادى بدولة دينية فى مصر.
من الممكن طبعا أن يحتج الأستاذ البشرى بقوله إن الذى يقصده بالدولة الدينية التى يناصرها هى «الأصول الثقافية المرجوع إليها.. إلخ». فهل سيجد الأستاذ البشرى أو غيره الوقت، أو سيسمح له، إذا قامت دولة دينية فى مصر، بأن يوضح أنه لم يقصد من الدولة الدينية إلا «الأصول الثقافية.. إلخ».
●●●
يقول الأستاذ البشرى أيضا فى مقاله: «إن الفكر المرجعى المستند إلى الدين، متهم من غير ذويه بأن ينكر شئون المصالح الدنيوية، وهو اتهام لا يقوم فى أساسه ولا لدى الغالبية الغالبة من مفكرى هذا المجال، حتى فى العصور قبل العصور الحديثة». وأنا أطمئن الأستاذ البشرى أنه لم يخطر ببالى قط أن أتهم هذا الفكر الذى يسميه «الفكر المرجعى المستند إلى الدين» بهذا الاتهام الخطير. بل من الذى يتجرأ، أيا كانت مرجعيته، على «أن ينكر شئون المصالح الدنيوية» (وهو على أى حال تعبير فضفاض يصعب تحديد معناه). إنما النقد هو أن الإصرار على تفسير المصالح الدنيوية بالرجوع إلى نصوص دينية ليست دائما قاطعة المعنى وواضحة الدلالة، يعرض المرء للوقوع، ولو بحسن نية، فى خطأ الإساءة إلى المصالح الدنيوية وللدين فى نفس الوقت. يضيف الأستاذ البشرى لتأييد موقفه قولا مقتطفا من حديث لرجل عاصر بداية عصر المماليك وهو العز بن عبدالسلام، يقول فيه «التكاليف كلها راجعة إلى مصالح العباد فى دنياهم وأخراهم، والله غنى عن عباده، ولا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضره معصية العاصين». وأصارح الأستاذ بأننى لم أجد فى هذا الحديث شيئا يدعم حجته على أى وجه من الوجوه فالاعتراف بأن «التكاليف كلها راجعة إلى مصالح العباد فى دنياهم وأخراهم» أمر مفروغ منه ومسلم به، وإنما المشكلة هى فيما إذا كان تفسير معين لهذه التكاليف سوف تضفى عليه هالة من التقديس قد تمنع الناس من الاعتراض عليه، حتى لو كان جديرا بهذا الاعتراض. وقد استغربت أن يجد الأستاذ البشرى ضرورة أو حتى فائدة من اقتطاف حديث ليس فيه جديد، إلا أنه يرجع، على حد تعبيره إلى بداية عصر المماليك، ثم يضيف «وهو العصر الذى يسميه البعض عصر التخلف» ما الذى يريد الأستاذ أن يقوله هنا؟ هل يريد أن ينفى عن عصر المماليك صفة التخلف، أم أن يقول إنه حتى فى أشد العصور تخلفا، كان هناك من يؤكد أن التكاليف الإسلامية يقصد بها فى النهاية تحقيق مصالح العباد، فى الدنيا والآخرة؟
إن الأمر يستعصى علىّ فهمه، فقد كنت أظن أن هناك اتفاقا عاما، فى جميع العصور، على أن الدين أى دين، لا يقصد إلا تحقيق مصالح العباد، فى هذه الدنيا أو فى الآخرة؟
●●●
الأستاذ البشرى يختم مقاله بخاتمة غريبة، فهو يقتطف جلال الدين الرومى مرة أخرى فى قول قد لا يخلو من فصاحة ولكنه لا يبدو ملائما لما نحن فيه. يقول الرومى «إن العالم مصنوع من المتناقضات وإن الحياة تتأتى من السلام بين المتعارضات، وإن الموت يكمن فى التحارب بينهما». وأنا قد أتفق مع الشاعر الكبير، ولكن أى ضوء يمكن أن يلقيه هذا الكلام عما نحن فيه؟ نعم يا حبذا لو ساد السلام بين المتعارضات، ولكن هل طريقة إحلال السلام هى التظاهر بأنه ليس هناك تعارض على الاطلاق، على طريقة رجال الدين الإسلامى والمسيحى عندنا، عندما يتبادلان العناق عقب كل أزمة طائفية، ثم سرعان ما تنشأ أزمة طائفية جديدة؟
●●●
أصارح القارئ، وأصارح الأستاذ البشرى نفسه، بأننى كنت أفضل بكثير، وقد قرر الأستاذ أن يدلى برأيه فى الجدل الدائر حول أيهما أفضل: الدولة الدينية أم المدنية، أن يقول لنا رأيه الواضح والقاطع فى أمور ملموسة مما يثار حولها الجدل الآن، أو التى يختلف فيها الرأى بين أنصار هذه الدولة وتلك، مثل ما إذا كان يشارك بعض أنصار التيار الدينى رأيهم فى أن الاحتفال بشم النسيم حرام، وفى كيفية التعامل مع السياح، وما إذا كان مع أو ضد اعتبار النحت عملا منافيا للدين الإسلامى ومن ثم رأيه فيما إذا كانت تماثيل قدماء المصريين يجب هدمها، أو ما إذا كان يوافق أو لا يوافق على التدخل بمنع ظاهرة جديدة بدأت تترعرع منذ اشتداد ساعد التيار الدينى فى مصر فى الشهور الأخيرة، وهى أن يتفنن بعض المؤذنين فى إلقاء الأذان من خلال مكبر جبار للصوت، فيحاول إبراز مواهبه فى تلحين الأذان، وكأنه يغنى أغنية لأم كلثوم، وهو خلو من أى موهبة، متسلحا باعتقاده بأنه ما دام يؤدى عملا له علاقة بالدين، فلابد أن يقبله الناس صاغرين، ويفعل ذلك، وهو مرتاح الضمير فى جميع أوقات النهار وعند الفجر. هل يمكن تبرير سلوك هذا الرجل بالقول بأنه يحقق مصالح دنيوية أو دينية؟ أم أنه يحقق أغراض الدولة الدينية والمدنية فى نفس الوقت، مادام الأستاذ طارق البشرى يعتبر أن الاثنتين دولة واحدة فى الحقيقة؟