الإساءة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:47 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الإساءة

نشر فى : الجمعة 11 نوفمبر 2016 - 9:15 م | آخر تحديث : الجمعة 11 نوفمبر 2016 - 9:15 م

لا يمر يوم واثنان حتى نسمع عن إساءة أو نقرأ عن إساءة أو نتعرض لإساءة، بل وأحيانا ما نصبح، عفوا أو قصدا، مصدرا من مصادر الإساءة.

تغدو الإساءة جريمة فى بعض المرات، يدان فاعلها ويطاله العقاب، لكنها قد تتحول فى مرات أخرى إلى فضيلة يكافأ فاعلها ويثاب. تتوقف النتيجة على موقع المسىء ومقام من وقعت عليه الإساءة.

تسفر الإساءة عن أذى معنوى قد لا يتحمله المضار ومن ثم يحق له التقاضى، لكننا لا نجد فى العادة تعريفا واضحا لماهية الإساءة، بل تعميمات عائمة غائمة لا ضوابط لها ولا حدود، تفسح المجال لتكييف أى فعل فى إطارها. الإساءة لدينا فعل مطاط، يتسع لطيف هائل من الأقوال والتصرفات، وعلى كل حال فإن ما يحضرنى كإساءة ربما لا يحضر فى ذهن الآخرين إلا كمديح. أمر نسبى فى عديد الأحوال، يرجع تقديره لثقافة وبيئة كل شخص على حدة.

***
فى صحف الأشهر الماضية أخبار ــ معظمها قصير ــ تدور حول إساءات متنوعة المصادر نالت من رؤساء وملوك، موطنها الأساسى منطقتنا العربية والأنظمة التى تحيط بها. فصْل فرد أمن مصرى أساء للرئيس على الفيس بوك، فصْل أستاذة جامعية فى تركيا لأنها أساءت للرئيس، سجن أفراد من آل صباح بتهمة الإساءة لأمير الكويت، الحكم على ناشطة إماراتية أساءت بتغريداتها للعائلة الحاكمة، معاقبة أستاذ جامعى مصرى أساء إلى الرئاسة خلال إلقائه محاضرة. لا تفصل الأخبار فى مجملها محتوى الإساءة وإنما تستفيض فى وصف العقاب. كم مرة يمكننا الإشارة عبر تعريفاتنا الهلامية إلى مقالة نشرتها صحيفة أجنبية والقول بأنها أساءت للرئيس الأمريكى؟ كم مرة نالت هذه الإساءات من المرشحين للرئاسة ومن شخصيات مسئولة بوجه عام؟ أظن أننا بصدد عدد لا نهائى من الإساءات مع ذلك لم يذهب مسىء من بين هؤلاء إلى المحاكمة ولا حملوه حملا ووضعوه فى السجن.

***
أحيانا ما يسىء الشخص لنفسه بكلمات يرددها دون وعى، أو أفعال يرتكبها غافلا عن صداها ووقعها. يلتقطها الآخرون ويردونها إليه فيستقبلها من زاوية جديدة ويشعر حينها بالإساءة. بقدر ما يملك المرء من بصيرة فإنه يعالج الموقف، ربما يصحح مساره ويقومه إن كان على قدر من الاتزان النفسى أو يسعى للانتقام ممن وضع المرآة أمامه وأجبره على الرؤية. منذ أيام استقال الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامى أو أقيل من منصبه على خلفية إساءته إلى الرئيس المصرى، مع أنه لم يفعل شيئا فى واقع الأمر سوى أن كرر ما ذكره الرئيس نفسه على الملأ وفى مؤتمر عام.



عادة ما تتوجه الإساءة إلى شخص ما، كائن حى يعقل أو ربما لا يعقل فى بعض الأحيان، لكنها قد تصبح فى مرات موجهة إلى جماد أو إلى كيان اعتبارى غير ملموس. قرأنا منذ أكثر من عام ولى عن محاسبة مواطنين مصريين بتهمة الإساءة إلى قناة السويس وتفريعتها الجديدة حال انتقادهم لمشروع الحفر، وقرأنا أيضا منذ أسبوعين تقريبا عن شيخ أزهرى كبير المقام يعد من زمرة العلماء، أحيل للتحقيق متهما بتوجيه إساءة لمؤسسة الأزهر نفسها حال انتقاده خطابها، كما تابعنا منذ فترة غير قصيرة صاحب البرنامج التلفزيونى الشهير الذى جهر برأيه مخالفا السائد فقضى أشهرا فى السجن مدانا بالإساءة للدين الإسلامى، وأخيرا فصلت الجامعة طالبة اشتركت فى مظاهرات جزيرتى تيران وصنافير إذ عدت مسيئة للدولة.

***
جرت أخيرا محاولة لكسر إحدى حلقات الإساءة التى تحكم خناقها على رقاب الكثيرين، لكنها باءت بالفشل. رفض مجلس الشعب مقترحا لأستاذة أزهرية معروفة، يقضى بحذف المادة القانونية المتعلقة بازدراء الأديان والإساءة إليها، أصر المجلس على الاحتفاظ بالمادة كما هى ومن ثم استبقاء الأدوات اللازمة للتنكيل بكل من يجرؤ على التفكير واستخدام العقل. بقيت المفارقة المبهرة، فالسيدة المنتمية قلبا وقالبا إلى المؤسسة الدينية تذكر فى حيثياتها التى أوردتها الصحف أن تلك المادة تنبعث منها «رائحة الأنا الغاشمة»، كما تعبر عن «ديكتاتورية الفكر البائسة»، بينما مجلس الشعب المدنى فى ظاهره، يرفض كلامها ويتبنى النقيض.
***
الإساءة إلى الرؤساء والملوك والشيوخ، الإساءة إلى النظام والدولة ومؤسساتها، الإساءة إلى بشر وجماد وغيبيات، نغرق بالفعل وسط أمواج البؤس الفكرى، يخنقنا جنون السيطرة وهوسها، ويطمرنا ركام الخطاب البالى.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات