نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتبة اللبنانية، تهانى سنديان، تناولت فيه الأخطاء التى ينطوى عليها مصطلح «اللاسامية».. نعرض من المقال ما يلى:
عندما أصدر المفكر الفرنسى الكبير روجيه غارودى كتابه المعروف: «الأساطير المؤسّسة للسياسة الإسرائيلية»، قامت الدنيا عليه ولم تقعد من طَرف الدوائر الصهيونية فى فرنسا، ونجحت بالطبع هذه الدوائر (نظرا لنفوذها القوى والمُتمادى فى بلاد بودلير) فى تقديمه للمحاكمة بتهمة النّيل من «الجنس اليهودى» و«معاداة السامية». كان ذلك فى العام 1995، وقال غارودى بعيد تبلغه أمر التقاضى بناء على التهمة المذكورة: «أعرف مسبقا دواعى شعار «معاداة السامية» وأهدافه، وهو مستخدم هنا فى غير محلّه، بل هو مقحم إقحاما وظيفيا فجا، لكن الصهيونية تفعل ما تريد، وتوصف كيفما اتفق، وتسخف كل رأى نقدى ضدها، حتى ولو كانت تَعرف، هى قَبل غيرها، أن هذا الرأى النقدى مفبرك ولا تاريخى».
جدير بالذكر أن غارودى ينكر فى كتابه «الأساطير المؤسّسة للسياسة الإسرائيلية» مسألة المحرقة أو «الهولوكست»، ويرى أنها مجرد أسطورة تبنَتها الصهيونية لمزيد من تبرير احتلال فلسطين، وتسويق أمر اغتصابها أمام الرأى العام العالمى. وهو، استطرادا، يشكك فى الأرقام المتداولة حول إبادة يهود أوروبا فى غرف الغاز على أيدى النازيين، ويدعو فى المحصلة إلى الإقلاع عن هذه الأضاليل والأوهام ومحاولات تكريسها كحقائق ماثلة على الأرض.
غير أن المحكمة الفرنسية مضت قُدما فى محاكمة غارودى وإدانته بتهمة التشكيك فى «المحرقة»، وأصدرت فى العام 1998 قرارا بسجنه لمدة سنة مع إيقاف التنفيذ. ومن بعد هذا الحكم القضائى الجائر بنظر كثر، داخل فرنسا وخارجها، صار بعض الإعلام الفرنسى، ومن على منواله فى الإعلامين الغربى والعالمى، يُروّج لتوصيف روجيه غارودى بـ «فيلسوف مُعاداة السامية»، وتوسّعت دائرة مثل هذا الكلام الإعلامى ضده من خلال الحملات العدائية المستمرة للماكينات الإعلامية الصهيونية التى لم تُعدم فرصة إلا ونالت منه، وظلت الأرجحية لها بالطبع، كونها هى السلطة العليا والمحرّكة لقوى التعصّب والتنافر والسيطرة والتعدى.
• • •
تجدر الإشارة إلى أن أول من أطلق مصطلح «اللاسامية» أو «العداء للسامية» أو «ضد السامية»، كان الصحفى الألمانى «ويليام مار» فى العام 1879، وكان يعنى به كُره اليهود أو مُناصبتهم العداء. فبعدما نشر هذا الصحفى فى العام الآنف الذكر كتيبا بعنوان: «انتصار اليهودية على الجرمانية: من زاوية نظر غير مذهبية»، أنشأ أيضا «رابطة المعادين للسامية»، ثم أطلق مجلة أسبوعية حملت اسم: «الأسبوعية المعادية للسامية».
جاء أصل مصطلح اللاسامية من سام بن نوح، جد إبراهيم عليه السلام الذى أنجب إسماعيل من خادمته هاجر، وإسحق من زوجته سارة. ومن ولده إسماعيل تحدَر العرب، ومن ولده الثانى تَحدَّرَ العبرانيون أو اليهود. لكن علماء اللغات متفقون، وذلك منذ زمن سابق على زمن الصحفى الألمانى ويليام مار، أن ثمة أصلا مشتركا للغات العربية والآرامية والعبرية والسريانية والجعزية (لغة سامية جنوبية يرى البعض أنها تنحدر من اللغة الحميرية)... غير أن هؤلاء العلماء، وتأثّرا منهم بحكايات التوراة، أطلقوا على جملة تلك اللغات اسما واحدا هو «اللغات السامية».
هكذا ارتكب ويليام مار خطأ مزدوجا باعتماده كلمة «سامية» ليشتق منها عبارة «العداء للسامية»، ويعنى بها العداء لليهود، ولليهود وحدهم؛ أولا، لأنه يَستخدم عبارة ذات دلالة ألسنية (اللغات السامية) للدلالة على معنى عرقى؛ وثانيا لأنه يقصر استخدام اللغة السامية على العبرانيين أو اليهود وحدهم، دون العرب ودون سواهم من الشعوب السامية الأخرى. ومن هنا السؤال: هل يجوز أن نسمى العرب الذين يكرهون اليهود بأنهم «لاساميون؟».
العداء لليهود قديم فى التاريخ، ولم يدخل العرب دائرة العداء لليهود إلا فى مرحلة متأخرة من التاريخ الحديث (منذ بدء تنفيذ اليهود مشروعهم السياسى/ الدموى القائم على اغتصاب الأرض العربية: فلسطين وجوارها). كانت شعوب روما والإغريق تُعادى اليهود منذ ما قبل ظهور المسيحية التى لم تَخترع مشاعر العداء لليهود.
فى العصور الوسطى كانت الكنيسة تَصف اليهود بـ«شعب سفاح»، لأنهم صلبوا السيد المسيح عليه السلام، وعوضا عن أن تناصبهم العداء، كانت ترغب فى الحفاظ عليهم، بوصفهم الشاهد الحى على الظلم الذى لحق بالسيد المسيح؛ فكان اليهود بذلك أتباع الدين الوحيد غير المسيحى المسموح له الوجود فى الغرب والانتشار بحرية فيه.
فى العصور الوسطى، كذلك، أَصبح معظم اليهود يعملون فى قطاع المال والمصارف، مستفيدين مما كانت تَعظ به الكنيسة رعاياها المسيحيين، لدوافع أخلاقية، كتفادى، مثلا، التعامل بالربا وأرباح التجارة المُفرطة غير الشرعية، فكانت هذه الوظائف أو المهمات التى احتكرها اليهود تحديدا، سبب الحقد الذى كان المسيحيون الدائنون يكنونه لمدينيهم من اليهود وغير اليهود الدائرين فى فلكهم الاقتصادى.
• • •
من جهة أخرى، كان «الأب الروحى للدولة اليهودية» ثيودور هرتزل (1860-1904) يرى أن «معاداة السامية» هى حركة شديدة الالتباس والتعقيد، وأن على الدول الكبرى أن تعمل حثيثا على التخلّص منها؛ ولن يتأتى لها ذلك، إلا بعَملها على قيام دولة خاصة باليهود، تجذب إليها كلّ يهود الشتات؛ إذ ذاك فقط (برأيه طبعا) تتخلص سائر الدول والمجتمعات التى تضم يهودا بين ظهرانيها من عبء ظاهرة اسمها «معاداة السامية». وكان هرتزل جادا وصريحا للغاية فى دعوته هذه، بدليل أنه أدرجها بندا متقدما على ما عداه فى المؤتمر الصهيونى الأول الذى انعقد بزعامته فى مدينة بازل فى سويسرا فى العام 1897، وكان من أهمّ نتائجه إعلان: «المنظمة الصهيونية العالمية» والتى كان على رأس أولوياتها «قيام وطن قومى لليهود فى فلسطين».
على أن هرتزل الذى مات فى العام 1904عن 44 عاما، ولم يشهد، بالتالى، قيام الدولة العبرية، كان قد وضع فى نهاية العام 1895 كتابه الشهير: «الدولة اليهودية»، والذى أورد فيه مُغالطات معرفية واضحة للعلم والمنطق، فى طليعتها جعْل اليهود يشكلون تجمعا قوميا خالصا بذاته، بينما هم جماعة دينية ليس إلا.
كما ركّز فى كتابه على فكرة أنه فى حال قيام «الدولة اليهودية»، فسيكون عندها فقط فى مكنة اليهود تجنُب مسألة «معاداة السامية».. بخاصة أن الأمم التى يعيش فى وسطها اليهود هى جميعها، كما يقول «مُناهضة للسامية بشكل علنى أم مستتر».
على مستوى آخر، وَجد هرتزل فى رحيل اليهود من البلدان الأوروبية إلى فلسطين، فرصة سانحة لهم لإنهاء العداء للسامية. يقول فى الصفحة 11 من كتابه «الدولة اليهودية»: «إن رحيل اليهود لن يؤدى إلى اضطراب اقتصادى أو أزمات أو اضطهادات. إن البلاد التى سينزحون منها سوف تفيق على مرحلة جديدة من الرخاء، فسوف يكون هناك هجرة داخلية للمواطنين المسيحيين ليحتلوا المراكز التى تركها اليهود؛ وسيكون التيار المنسحِب بطريقة تدرجية ومن دون اضطراب. وسوف تضع أول خطوة فى هذه الحركة نهاية العداء للسامية».
وقارئ كتاب هرتزل المذكور يلحظ، أول ما يلحظ، تردُد مصطلح «معاداة السامية» على طول عناوين موضوعات الكتاب تقريبا. والكتاب بالمناسبة لا يتجاوز تعداد صفحاته الـ61 صفحة فقط. ومن أبرز عناوينه: «أسباب العداء للسامية»، «آثار العداء للسامية»، «ظاهرة الجمهرة»، «نسيجنا الإنسانى»، «جمعية اليهود والدولة اليهودية»، «كفيل اليهود»، «احتلال الأرض»، «الدستور»، «اللغة»، «الجيش»، «العَلمْ»، «منافع هجرة اليهود»… إلخ.
ويورد هرتزل فى خاتمة كتابه هذا النداء لإخوانه اليهود، بعد تشجيعه لهم طبعا على التصدى للمعادين للسامية: «فيا إخواننا اليهود؛ هذه هى «أرض الميعاد»!.. لا أسطورة هى ولا خدعة. وكل إنسان يستطيع أن يختبر حقيقتها بنفسه، لأن كل إنسان سيحمل معه قطعة من أرض الميعاد: بعضها فى رأسه، وبعضها بين ذراعيْه، وبعضها فى ملكيته المُكتسبة».