منذ التسعينيات، خاصة بعد أن أفل نجم النظم الاشتراكية، والدعاوى تتصاعد، بقيادة واشنطن وأتباعها بضرورة إجراء الدول النامية إصلاحات ترمم بها اقتصاداتها التى أعطبتها مديونيات خلفها تضخم ركودى انطلق منذ هدمت واشنطن نظام بريتون وودز النقدى الذى استمر ربع قرن. وتولى صندوق النقد الدولى دفع السياسات المالية والنقدية نحو التثبيت بدعوى أنه الحل الناجع للتخلص من العجز الخارجى الراجع لسياسات مالية ناءت بأعباء الإنفاق التنموى والاجتماعى، بينما استل البنك الدولى سيف المساعدات التنموية لاجتثاث القطاع العام وتسليم قيادة التنمية لقطاع خاص كان لايزال هزيلا، ففتح الباب أمام تكالب على أرباح من أقصر الطرق واستدعاء رأس المال الأجنبى الذى تحركه عابرات القوميات، إنتاجية كانت أم مالية. ثم لحقت بهما منظمة التجارة العالمية لتفتح الأبواب على مصراعيها أمام تجارة دولية، تقلب سياسات إحلال الإنتاج المحلى محل الواردات التى غذت انخفاض الكفاءة الإنتاجية والقدرة التنافسية فحملت المستهلك عبء تكاليفها، إلى إحلال الواردات من الدول الصناعية محل الإنتاج المحلى حتى فى الغذاء والمنتجات الزراعية. وكانت النتيجة بالضرورة انكماش الإنفاق على الجوانب الاجتماعية وإغلاق أبواب الرزق ليس فقط أمام من طردتهم الخصخصة، بل ــ وهو الأخطر ــ أمام الشباب الباحث عن عمل، بخاصة خريجى التعليم العالى. وطالبت المنظمات الدولية المعنية بشئون الإنسان بإكساب الإصلاح وجها إنسانيا، فقوبلت بادعاء جعل الأسواق صديقة للإنسان مع تعزيز سيادتها فى كل مجالات الحياة، حتى وصلت للاتجار بالبشر.
وتتباهى حكوماتنا الرشيدة بأنها ابتدعت إصلاحا اقتصاديا اجتاز به الاقتصاد الأزمة بنجاح، وتعد بمعدلات نمو يحسدها العالم عليه. وإذا ببيانات جهاز الإحصاء تؤكد تراجع عدد المنشآت (10 فأكثر) فى 2009 بنسبة 11.5% فى القطاع العام بسبب الخصخصة رغم تباطؤها مؤخرا، و11.4% فى القطاع الخاص، مرجعا ذلك إلى غلق بعض المنشآت أو هدمها أو تصفية نشاطها بسبب الأزمة العالمية!!. وتبع ذلك نقص عدد المشتغلين بمقدار 44 ألف عامل، رغم ادعاء وزيرة القوى العاملة أن الوزارة أوجدت 4.5 مليون فرصة عمل، بنسبة 90% من برنامج الرئيس لولايته الحالية. وكشفت مراكز بحثية حكومية أن 11.3 مليون مصرى يعيشون تحت خط الفقر، وازداد الفقر عمقا، وتضاعف عدد الأطفال الذين يعانون سوء التغذية ثلاث مرات بين 2000، 2008 ليصل إلى مليون ونصف المليون.
من جهة أخرى ارتفع المعدل الرسمى للتضخم فى 2005 بنسبة الثلث عن 2000، ثم بأكثر من النصف ليبلغ 208.5% فى 2009. ورغم ارتفاع متوسط الأجر النقدى بنسبة 10% بين 2008، 2009 فإن التضخم بلغ 11.8% مسببا انخفاض الأجر الحقيقى بنسبة 1.6%، واستمرار تدهور مستوى معيشة العاملين. وحتى فى غياب نمو المتوسط العام للدخل الحقيقى وبقائه على حاله، فإن معنى ذلك زيادة تركز الدخل فى يد أصحاب حقوق الملكية، ليثرى الأغنياء على حساب البسطاء.
وهكذا أدى تسليم قيادة التنمية للقطاع الخاص إلى إغلاق وهدم وتصفية المنشآت وتشريد العمال، فكان عليه أن يستعين بصديق، وليس هناك أفضل من رأس المال الأجنبى المحتمى وراء المليارديرات العرب، الذين اعتبرهم البعض كنزا!. ويتحدث وزير التجارة والاستثمار عن رفع الاستثمار الأجنبى المباشر إلى 15 مليار دولار. وبحكم أن هذا الاستثمار ينتقى المجالات الأكثر ربحية بغض النظر عن متطلبات إصلاح الهيكل الاقتصادى وتوزيع الدخل، فإنه سوف ينقل تركز الدخل والقرارات الإنتاجية القائدة للتنمية إلى أيد أجنبية تعطى وزنا لاعتبارات دولية يفوق ما تعطيه للوطنية، ولا تبالى باستفحال السلبيات الاجتماعية. وفارق كبير بين اقتصاد كالصين يتهافت عليه الاستثمار الأجنبى المباشر يعد أن شق طريقه تحت إشراف دولة قادرة على تحمل مسئولية التنمية فأصبح محط أنظار من يريدون اغتنام فرص فتحتها عملية تنمية شاملة، وبين اقتصاد يعتمد على الخارج سواء إيرادات البترول والغاز أو قناة السويس، أو سياحة تهددها سمكة قرش ويحد منها تهالك البنية الأساسية وحوادث الطرق، أو تحويلات المغتربين الذين نجوا من الموت غرقا بعد أن أعياهم البحث عن لقمة العيش فى وطنهم.
إن التركيز على هذا المنحى للسياسات الاقتصادية ومواصلة النهج المتعنت فى الأمور السياسية قد أحدثا تمزقا فى المجتمع، طفت فيه على السطح أحداث اعتبرت فتنة طائفية، لم تكن لتتأجج لو أن كل فرد فى المجتمع حصل على ما يعتبره حقا له فى معيشة كريمة. ولا جدوى من تلمس مسارات جديدة للإصلاح الاقتصادى وترديد المطالبة بالتغيير السياسى، ما لم تعالج الشروخ الاجتماعية، وبضمنها الحزازات ذات الصبغة الطائفية التى تعامل كما لو كانت ظاهرة مرفوضة قائمة بذاتها. فعندما تضطرب الأوضاع السياسية والاقتصادية فإن هذا يعود إلى، كما يترتب عليه، اختلالات نفسية واجتماعية لابد من استقصاء أبعادها ومعالجتها حتى يتيسر تقويم تلك الأوضاع. فحينما تضيق سبل العيش أمام إنسان ويشعر بالحرمان من المشاركة فى الحياة السياسية، وحينما تنهار صورة المستقبل الواعد أمام الشباب وينتابه الأسى على ضياع زهرة عمره الذى قضاه فى الإعداد له، فإنه يصاب بتوتر بجعله يضيق بالمجتمع الذى ينتمى إليه، وينفر حتى من أهل بيته، وقد يصل الأمر به إلى الانتحار. وما الشرارة التى أطلقت مؤخرا حركات التمرد فى تونس إلا مصداق لذلك. وتدل تجارب الدول التى تسودها نظم ديمقراطية على أن تواصل التقلبات الاقتصادية يثير نزعات عنصرية واتهام للمهاجرين بالمسئولية عن ضيق فرص العمل أمامهم.
فإذا استبعدنا المنازعات العائدة لأسباب تتعلق بالثأر أو الشرف التى تشكل جزءا من الثقافة المصرية، التى تكتسب بعدا طائفيا إذا اختلفت عقيدة طرفيها، فإن الخطورة تكمن فى تحميل أحد الطرفين الآخر مسئولية انتقاص يتعرض له من نصيب كريم من الحياة الاقتصادية، ومن مشاركة مستحقة فى إدارة شئون المجتمع. ويميل أبناء كل طرف إلى الانحياز لبعضهم البعض واستبعاد أبناء الطرف الآخر فى توفير فرص الرزق وتقديم خدمات أساسية، فى ظل تخلص الدولة من مسئولية تهيئة فرص العمل المنتج وتقاعسها عن توفير الخدمات الضرورية التى يقصر دخل الأفراد (إن وجد أصلا) عن تدبير تكلفتها. ويحق لنا أن نستنتج أن ما يبدو من خلافات بين المسلمين والأقباط لا يعود إلى كراهية متبادلة، فهى ليست جزءا من التراث الثقافى المصرى، وإنما إلى تخلى الدولة عن مسئولياتها الأساسية تجاه المجتمع وإصرارها على البقاء رغما عنه.
إن معالجة القضايا الجوهرية التى تواجه المجتمع المصرى يجب أن ينأى عن التعامل العاطفى الذى تبدى فى محاولة إطفاء لهيب الفتنة الطائفية بعد أن تسبب فى إشعالها، وإنما يقتضى نظرة شاملة متكاملة لا تتوقف عند حديث عن إصلاح اقتصادى هنا وترميم سياسى هناك. فقد تغلغلت فى المجتمع نزعات العيش بالمعاصى التى تزين الارتزاق بالبلطجة وبالسطو المسلح والاتجار بالمخدرات والبشر وصولا إلى بيع النفوس لأعداء الوطن أو للإرهاب، وهى مصادر توهم بالثراء السريع المصحوب بانتقام من مجتمع ضن بمصادر الرزق الحلال. والأدهى من ذلك أن الإصلاح الاقتصادى المزعوم لا يقف عند تخلى الدولة عن المرافق والخدمات الأساسية، بعد أن تخلت عن الإنتاج، بل إنه يسلم التعليم والاقتصاد إلى الأجانب ليضيف إلى شروخ المجتمع ويعمقها، ويسلم العقل لإعلام افتقد مع باقى المجتمع قاعدته الفكرية.
الإصلاح الاجتماعى هو الحل.