ما كل هذا العداء لنظرية المؤامرة؟ - جلال أمين - بوابة الشروق
الإثنين 13 مايو 2024 2:04 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ما كل هذا العداء لنظرية المؤامرة؟

نشر فى : السبت 12 يناير 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : السبت 12 يناير 2013 - 8:00 ص

 كان ذلك منذ 65 عاما، عندما بدأ الكاتب الإنجليزى جورج أورويل يكتب روايته الشهيرة، التى أعطاها اسما غير مألوف، وهو (1984)، إذ لم تجر العادة لا قبل ذلك ولا بعده أن يكون اسم رواية رقما من الأرقام.

 

حققت الرواية نجاحا ساحقا، أثلج صدر مؤلفها المريض بالسل، وكان يتوقع الموت بين يوم وليلة أثناء كتابتها، ولا يأمل فى شىء إلا أن يطول عمره حتى ينتهى من كتابة الرواية.

 

كان يكتبها إذن فى ظروف صعبة، جسديا ونفسيا، وكان يعرف أن هذه الظروف تمنعه من أن يصل بالرواية إلى المستوى الفنى الذى يريده لها، ولكنه كان يعتبر الأهم من ذلك توصيل فكرة معينة للقراء، أو بالأحرى تحذير معين مما يمكن أن يجلبه المستقبل إن لم يبذلوا كل جهدهم لمنعه. المهم أن الرواية تمت، والتحذير وصل، ومات الرجل بعد ظهور الرواية بشهور قليلة.

 

ولكن نجاح الرواية لم يقتصر على الشهور الأولى التالية لظهورها، بل استمر نجاحها ورواجها حتى اليوم، أى طوال ما يقرب من ثلثى قرن، فإذا نفدت من الأسواق أعيد طبعها على الفور، ومن ثم لم يمر عام واحد دون أن تكون موجودة على رفوف المكتبات، وتكررت الإشارة إليها فى الكتب والمقالات التى تمس من ناحية أو أخرى نقد المجتمع المعاصر أو ما يمكن أن يأتى به المستقبل. إننى لا أجد فى هذا النجاح واستمراره عاما بعد عام، أى شىء مدهش، فالرواية فى رأيى بالغة الأهمية، والرسالة التى أراد جورج أورويل أن يوصلها للعالم، تزداد أهميتها مع مرور الزمن، إذ تقترب صورة العالم الواقعى، عاما بعد عام، من الصورة الخيالية التى رسمها أورويل فى ١٩٤٨، حتى ذهب بعض المفكرين إلى القول بأن صورة العالم اليوم ليست أقل سوءا مما تصوره أورويل منذ ثلثى قرن، بل وربما فاقته بشاعة.

 

الذى أجده مدهشا حقا، ليس هذا النجاح الساحق للرواية، بل التناقض الشديد بين هذا الانتشار المتزايد للرواية، عاما بعد عام، وذلك الإصرار المتزايد أيضا بين المعلقين السياسيين والمتخصصين فى العلوم السياسية على رفض واستنكار ما يسمونه «بنظرية المؤامرة». فرواية أورويل مبنية كلها على أن ما يقوله الممسكون بالسلطة ووسائل الإعلام هو عكس الحقيقة بالضبط. فهم يسمون الحرب سلاما، والظلم عدلا، والوزارة التى تقوم بتزييف التاريخ والحاضر «وزارة الحقيقة». والرجال الوطنيون يحاكمونهم لأنهم «أعداء الشعب»، والزعيم الذى يسمونه «الأخ الأكبر»، لا يكف عن إطلاق الوعود التى لا تتحقق، بل و«زعيم المعارضة» الذى يظن الناس أنه يعارض النظام، لأنه يبغى مصلحة عامة الناس وفقرائهم، يظهر فى نهاية الرواية أنه جزء لا يتجزأ من النظام، ومتعاون تمام التعاون مع أصحاب السلطة، بل ويشترك هو نفسه فى تعذيب بطل الرواية عندما ينتهى أمره بالقبض عليه، بعد أن ظل خاضعا للتجسس المستمر من جانب جهاز المخابرات.

 

أما عن علاقات الدولة بالدول الأخرى فالكذب على الناس مستمر فى هذا أيضا. الدولة التى يُتظاهر بمعاداتها، هى فى الحقيقة صديقة للنظام ومؤيدة له، والدولة التى يتظاهر بأنها صديقة هى فى الحقيقة دولة معادية. والتظاهر مستمر بأن الحرب على وشك الحدوث ولكنها لا تحدث أبدا، والناس يُعبّأون يوميا ضد عدو موهوم، وتُنفق الأموال الطائلة استعدادا لمحاربته، ثم يعلن فجأة أنه صار صديقا، بينما يتحول صديق الأمس إلى عدو.. الخ.

 

هذه هى حال الدولة التى تدور فيها أحداث رواية (1984). المشكلة ليست بالضبط فى وجود «مؤامرة»، تدبر فى الخفاء ثم يجرى تنفيذها على أرض الواقع، بل فى الكذب المستمر الذى يمارسه الممسكون بالسلطة ويروجونه باستخدام وسائل الإعلام التى تزداد مهارة وكفاءة وسطوة مع مرور الأيام.

 

سمّها «مؤامرة» إذا شئت، على الرغم من أنها فى الواقع سلسلة لا تنتهى من المؤامرات»، كبيرة وصغيرة، تمارسها عدة أطراف فى الداخل والخارج، أو بالتعاون بين الداخل والخارج، أو قد يمارسها شخص بمفرده. ليس الاسم هو المهم، بل المهم أن ما يقال للناس هو عكس الحقيقة، وأن الحقيقة يراد إخفاؤها لأنها تنطوى على الإضرار بمصالح الناس بدلا من خدمتهم، ولأن أهدافها شريرة وخبيثة بدرجة لا يمكن أن يقبلها أو يصبر عليها الناس لو علموا بها.

 

إننا جميعا نعرف أن الكذب وادعاء عكس الحقيقة من الصفات الملازمة لأعمال وأقوال السياسيين منذ الأزل، ولكننى أزعم أن هذه الصفة قد زادت واستفحلت مع مرور الزمن. ما أكثر ما استخدمت الشعارات الدينية لتبرير الحروب والاستغلال والقهر، منذ مصر القديمة وحتى الاستعمار الأوروبى، وما أكثر ما استخدمت الشعارات القومية والوطنية لتبرير نفس الأعمال، وشعارات الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية لتبرير عكس هذه الشعارات بالضبط. وقد قام كثير من الكتاب والمفكرين بفضح هذه الصور المختلفة من الخداع بدرجات مختلفة من النجاح، حتى أصبح من الصعب جدا استخدام شعارات الدين لتبرير الاستعمار مثلا، بل حتى شعارات القومية والوطنية والعدالة الاجتماعية زادت شكوك الناس فى حقيقة الأغراض التى تخدمها، مما يظهر مثلا فى ازدياد حاجة الحكومات إلى الاعتماد على الدافع المادى البحت، لحث الشباب على التطوع للخدمة العسكرية بدلا من الاعتماد على الوازع الوطنى. كان الادعاء يقبل الدوافع وراء الحرب العالمية الأولى مثلا، أسهل مما أصبح فى الحرب العالمية الثانية، ولكنه الآن أصبح صعبا للغاية بعد أن انفضحت الأهداف الحقيقية لكلا الحربين.

 

نعم، لقد انكشفت لأعداد متزايدة من الناس حقيقة الحروب العالمية، ولكن حدثت أيضا تطورات أخرى جعلت خداع الناس فى أمور أخرى كثيرة أسهل وأوجب.

 

هناك أولا اتجاه العالم المعروف باسم العالم المتقدم أو الصناعى، مع زيادة التقدم التكنولوجى إلى تغليب الاعتبارات الاقتصادية، وعلى الأخص دافع الربح، على أى اعتبارات أخرى. لقد شهد القرن العشرون تراجع دوافع سياسية وأخلاقية كانت تحكم السياسيين والممسكين بالسلطة فى القرن التاسع عشر، فحلت محلها دوافع اقتصادية بحتة. وما أن حل بنا القرن الواحد والعشرون حتى رأينا هذه الدوافع الاقتصادية قد ترسخت واستفحلت حتى كادت تختفى أى دوافع أخرى.

 

والدافع الاقتصادى بطبعه دافع أنانى كثيرا ما يستحسن إخفاؤه والادعاء بعكسه. فالاستعمار يحسن تبريره بالرغبة فى نشر الحضارة، وتدبير انقلاب فى دولة صغيرة لخدمة مصالح شركة كبيرة يحسن تبريره بالدفاع عن الديمقراطية.

 

مع انتشار الدافع الاقتصادى وتزايد قوته لابد أن تقوى أيضا الرغبة فى خداع الرأى العام.

 

ولكن هناك أيضا التقدم الرهيب فى تكنولوجيا الإعلام وغسيل المخ. لم يعد الأمر مقصورا على الصحف، التى ظلت وسيلة الإعلام الرئيسية حتى بداية القرن العشرين حينما انضم إليها الراديو ثم السينما، ثم اكتسح الجميع ظهور التليفزيون، وانتشاره بين مختلف الطبقات ابتداء من منتصف القرن العشرين، حتى أصبح الجلوس أمامه مسلاة الجميع، يسلمون له أنفسهم لدى عودتهم من العمل وحتى يستسلموا إلى النمو، فيفعل بهم ما يشاء ويصب فى أدمغتهم ما يشاء من رسائل لم يعد الكلام المقروء أو المسموع هو الوسيلة الوحيدة للخداع، بل أضيفت إليه تلك الأداة الجبارة فى الخداع، وهى الصورة، الثابتة ثم المتحركة، التى يمكن، إذا اقترنت بالكلام أو الموسيقى، أن تحدث من الآثار ما يصعب محوه من مخ الإنسان المسكين، الذى لا يتاح له الوقت أو الفرصة للتمييز بين الحقيقى والزائف، فإذا به يذهب لانتخاب مرشح فاسد لمجرد جمال صورته أو فصاحته، أو لتكرر ظهوره على شاشة التليفزيون وهو يبتسم ابتسامة لطيفة لمؤيديه، أو هو يقبل الأطفال، بل وأحيانا لمجرد جمال زوجته التى تظهر برفقته فى الصور وهى حانية عليه.. الخ.

 

لقد جرّب السياسيون هذه الوسائل كلها بنجاح باهر منذ تجربة هتلر مع الألمان فى الثلاثينيات، وقبل ظهور التليفزيون، فما بالك بعد أن ظهر التليفزيون، وانتشر انتشار النار فى الهشيم، فسهل استخدامه للترويج لممثل سينمائى أصبح رئيسا للجمهورية، مثل الرئيس الأمريكى ريجان، أو لمحام مفوّه قادر على الاستمرار بلا توقف فى إطلاق الأكاذيب بوجه جذاب دون أن يرمش له جفن، مثل رئيس الوزراء البريطانى تونى بلير. لا عجب، مع ظهور وانتشار هذه الأساليب فى خداع الجماهير، أن انتهى «أو كاد ينتهى» عصر الشخصيات السياسية العظيمة، مثل ونسون تشرشل أو شارل ديجول، وحلول محلهم رجال يتسم كثير منهم بأنهم محدودو الذكاء أو مهرجون.

 

بمثل هذه الطرق تم تمرير سياسات الرأسمالية المتوحشة، فى الغرب أولا ثم فى الشرق، كما تم «إقناع» الناس فى الغرب والشرق بمهزلة 11 سبتمبر 2001، وبوجود ما يسمى «بالحركات الإرهابية»، التى ترأسها شخصية اخترعت اختراعا هى «أسامة بن لادن»، الذى رميت جثته فى البحر عندما انتهت الحاجة إليه، ثم تمرير احتلال أمريكا للعراق باسم نشر الديمقراطية.. الخ.

 

إن أسوأ شىء فيما يسمى «بنظرية المؤامرة»، اسمها. فالذى يحدث وراء الكواليس ليس من الضرورى أن يكون «مؤامرة» بالضبط، بل قد يكون مجرد خطة لا يريد واضعوها الإفصاح عنها لأنها خبيثة فى دوافعها، وشريرة فى وسائل تنفيذها، ومن ثم يتظاهرون بعكس الحقيقة، ويختلقون من الشعارات النبيلة ما يخفى حقيقة الدوافع غير النبيلة. هذا هو ما يسمى «بمؤامرة». فليكن. لا يهم الاسم. المهم فقط أنها موجودة. كانت موجودة فى كل الأمثلة التاريخية التى ذكرتها وعشرات غيرها. ومن ثم فمن المفيد جدا أن نحاول البحث عنها أيضا فيما حدث من تطورات فى المنطقة العربية، منذ بدأ ما يسمى «بالربيع العربى».

جلال أمين كاتب ومفكر مصري كبير ، وأستاذ مادة الاقتصاد في الجامعة الأمريكية ، من أشهر مؤلفاته : شخصيات لها تاريخ - ماذا حدث للمصريين؟ - عصر التشهير بالعرب والمسلمين - عولمة القهر : الولايات المتحدة والعرب والمسلمون قبل وبعد أحداث سبتمبر.
التعليقات