حينما يتطلع الإنسان فى بدايات الشباب إلى الالتحاق بكلية الطب فإنه بلاشك يطمح إلى مركز اجتماعى مرموق ووظيفة دائمة ثابتة سواء كان العمل فى مستشفى أو مركز طبى متخصص أو حتى عيادة خاصة. هناك أيضا دون شك من يلتحق بكلية الطب أملا فى أن يحقق رسالة سامية لرفع المعاناة والألم عن الآخرين. فى كل الأحوال تظل مهنة الطب هى مهنة أصحاب الرسالات، فهل ظل الحال على ما هو مع تغير أحوال العالم ومقادير الأمم؟.
غسان أبوستة جراح تجميل بريطانى من أصول فلسطينية ولد فى الكويت وعاش فى بريطانيا إلى أواخر الثمانينيات، تفوق فى مهنته وحالفه النجاح لكن ذلك لم يجرفه بعيدا عن قضية شعبه الأساسية.
تردد اسمه كثيرا فى الأحداث الأخيرة لعملية «طوفان الأقصى» وثورة غزة، حينما عقد العزم على الرحيل إلى حيث ترك قلبه فى وطنه فلسطين فوصل غزة فى التاسع من أكتوبر الماضى مع فريق من «أطباء بلا حدود» عن طريق القاهرة التى مهدت لهم طريقا آمنا إلى غايتهم.
التحق على الفور «غسان أبوستة» بالعمل فى مستشفى «الشفا» ليستقبل جرحى وضحايا مجازر الكيان الصهيونى الذى لم يستثن طفلا أو شيخا ولا فرق بين رجل وامرأة. ظل يعمل وفريقه تحت قصف النيران والصواريخ التى استهدفت حتى المستشفيات. عاصر وفقا لما رواه للإعلام مجازر لم يعاصرها فى تجاربه السابقة فى العراق وسوريا واليمن وجنوب لبنان. فالواقع أن جراح التجميل ترك وراءه كل ما يمكن أن يحصل عليه من شهرة وتألق وحياة رغدة وانضم مختارا إلى فريق «أطباء بلا حدود» أصحاب الفكرة الإنسانية الفريدة فى العمل متطوعين فى أى مكان يحتاج أطباء لإغاثة ضحايا الحرب أو الأوبئة أو الكوارث الطبيعية. قاد هو الفريق هذه المرة إلى غزة.
لم يكتف غسان أبوستة بما يقدمه من عمل تطوعى بليغ الأثر فى مواجهة حرب الإبادة التى شنها الكيان الصهيونى على أصحاب الأرض الأصليين فبدأ يدعو العالم بأسره لرصد ما يحدث من مجازر تخطت حدود استيعاب العقل لما يمكن أن يحدث أثناء الحروب وانتهاكات غير إنسانية بالمرة من فنون الإجرام.
أدلى أبوستة بشهادته الحية على ما شهده أثناء عمله فى غزة من جرائم حرب ليس لها مثيل أمام البوليس الإنجليزى قبل أن يغادر ليدلى بشهاداته أمام محكمة العدل الدولية بعد أن تقدمت جنوب أفريقيا بطلب للتحقيق فى حرب الإبادة التى يشنها الكيان الصهيونى على أصحاب الأرض فى غزة والتى بدأت صباح أمس الأول الخميس.
يذكر «أبوستة» فى حديث له مع الصحافة الإنجليزية أنه قد لا ينسى على الإطلاق مصابا تعرض للقصف المباشر ونقله أهله إلى المستشفى بجمجمة مسكورة وكان بحاجة لجراح مخ وأعصاب لكن للأسف تلك رفاهية لا تتمتع بها مستشفيات غزة فالكل يعمل فى إنقاذ ما يمكن إنقاذه تحت وطأة غياب الأطباء المتخصصين ونقص الأدوية الهامة والمضادات الحيوية الأساسية. فارق المصاب الحياة وحوله أهله وبينهم طبيب مقاتل لم يستطع إنقاذه أو حماية روحه.
يصل «غسان أبوستة» هذا الأسبوع إلى لاهاى ليدلى بشهادته ويشرح لقضاة «العدل الدولية» ما يتعرض له أهل غزة من انتهاكات وجرائم حرب.. يتحدث عن أنواع الإصابات التى تحدثها أسلحة الكيان الصهيونى غير المشروعة ويمكن من خلال تحديد أنواع تلك الإصابات تحديد أنواع الأسلحة.
هذا والله دور جديد يلعبه الطب والأطباء فى مواجهة ما يحيق بالعالم من كوارث لا يد للطبيعة فيها إنما هى من صنع الإنسان نفسه.