نشر مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة تحليلا حول الاتفاق الذى أبرمته واشنطن مع اليابان وهولندا بهدف تقييد تصدير الرقائق الإلكترونية للصين. التحليل تناول أهمية هذا الاتفاق والتداعيات المحتملة... نعرض من المقال ما يلى:نجحت إدارة الرئيس الأمريكى، جو بايدن، فى التوصل لاتفاق مع هولندا واليابان، فى 27 يناير 2023، يهدف إلى تقييد تصدير بعض آلات إنتاج الرقائق الإلكترونية المتقدمة للصين، لتنضم الدولتان لمساعى الولايات المتحدة الأمريكية لتقويض الصين تكنولوجيا، ومن ثم إبطاء تطورها العسكرى والتقنى المرتبط بالذكاء الاصطناعى.
وتم التوصل إلى الاتفاق بعد مفاوضات شاقة فى واشنطن بين كبار مسئولى الأمن القومى من الدول الثلاث، حيث كانت الولايات المتحدة تحاول إقناع حلفائها بتنفيذ ضوابط التصدير على شركاتهم، فى حين أن الدولتين أظهرتا مخاوفهما من احتمالية قيام الصين بتبنى إجراءات انتقامية ضدهما.
وبموجب الاتفاقية، ستضع هولندا قيودا على شركتها العملاقة «إيه إس إم إل» (ASML)، وستفرض اليابان على نحو مماثل قيودا على شركتى نيكون كورب، وطوكيو إلكترون المحدودة، لمنع بيع المعدات التى تصنع الرقائق المتقدمة إلى الصين.
• • •
لا تُعد هذه الاتفاقية هى الأولى فى سلسلة الجهود الأمريكية لإعاقة تقدم الصين فى صناعة الرقائق الإلكترونية، بل تأتى استكمالا وتتويجا لمساعى الرئيس بايدن فى هذا الصدد، إذ تأتى هذه الاتفاقية الخارجية مكملة للقوانين والإجراءات التى سنّتها إدارة جو بايدن محليا خلال 2022 لتقييد مبيعات تكنولوجيا الرقائق الإلكترونية للصين.
كان أولها قانون الرقائق (chips) الفيدرالى، والذى وقعه بايدن بهدف تحفيز السوق الأمريكية على تطوير صناعة أشباه الموصلات، وذلك عن طريق تخصيص 52.7 مليار دولار أمريكى لتمويل صانعى الرقائق الأمريكيين، وتقديم مزيد من الإعفاءات الضريبية لتوسيع الإنتاج المحلى.
وثانيها، القواعد التى أعلنت عنها وزارة التجارة الأمريكية، والتى بموجبها تم منع الشركات الأمريكية من بيع رقائق معينة تستخدم فى تطوير الحوسبة الفائقة والذكاء الاصطناعى للشركات الصينية، كما تم منع المواطنين الأمريكيين وحاملى بطاقة الإقامة الخضراء من العمل فى بعض تلك الشركات.
يرى خبراء أن إبرام الاتفاقية الأمريكية الهولندية يعكس نجاح الإدارة الأمريكية فى الضغط على هولندا لكى تتماشى مع القواعد الأمريكية فى هذا الشأن، كما أنه يأتى نتاجا لاعتماد الشركة الهولندية على مكونات أمريكية الصنع فى إنتاجها، ومن ثم تتخوف الشركة من أن تقوم واشنطن بوقف تصدير هذه المكونات لها، إن هى رفضت الانصياع للمطالب الأمريكية.
على الجانب الآخر، أقنعت الولايات المتحدة اليابان بأن دولا، مثل الصين وروسيا وكوريا الشمالية، تتنافس من أجل الهيمنة العالمية، وبالتالى قد تستخدم هذه الدول الرقائق الإلكترونية لتطوير بنيتها العسكرية، بما يهدد بشكل مباشر الأمن القومى اليابانى، وبالتالى، يتعين على طوكيو اتخاذ كل السبل لحصار الصين عبر وقف صادرات الرقائق المتطورة لها.
يلاحظ أن الاتفاقية السابقة تعد بداية لإنشاء واشنطن ما يُسمى بـ«تحالف الديمقراطيات التكنولوجى» فى مواجهة الصين. ويرجع ذلك إلى ثلاثة أسباب رئيسية، وهى: أولا، إدراك واشنطن لأهمية أشباه الموصلات فى صراع القوى الكبرى الراهن؛ حيث إن هذه الرقائق أصبحت تقف وراء كل تقنية فى هذا العصر الحديث، بدءا من الطائرات والسيارات وصولا إلى الهواتف المحمولة.
وثانيا، يتوقع أن تتجه واشنطن لتوسيع التحالف وتحويله إلى ما يشبه «منتدى شامل» للدول ذات التفكير المماثل، وذلك لكى تجتمع وتتوصَّل إلى ردود مشتركة على الممارسات الحمائية الصينية وما يُسمى بـ«الاستبدادية التقنية»، فى إشارة إلى الاتهامات إلى بكين بأنها المسئول الرئيس عن أزمة النقص العالمى فى الرقائق، لأنها تقوم بتخزينها منذ فترة وباء «كورونا» فى عام 2020.
وأخيرا، سوف يصب هذا التحالف فى صالح الولايات المتحدة عبر تقديم حوافز تهدف لإعادة إحياء وتوطين صناعة الرقائق فى الولايات المتحدة ومحاولة الإبقاء على الهيمنة الغربية على هذه الصناعة، وذلك عبر فتح قنوات للتعاون مع شركات تكنولوجية عملاقة فى تايوان واليابان ودول أوروبا الغربية.
• • •
يلاحظ أن هناك ثلاث نقاط يمكن استخلاصها من الإفادة الصحفية التى صدرت من قبل المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية ردا على الخطوات الأمريكية السابقة، والتى يمكن استعراضها فيما يلى:
أولا: انتقاد الهيمنة الأمريكية. رأى البيان الصحفى الصينى أن القيود الأمريكية على صادرات معدات تصنيع الرقائق الإلكترونية من دول أخرى إلى الصين تضر بالجميع، وفى الوقت ذاته، هى أحد سبل الإدارة الأمريكية للحفاظ على الهيمنة الأمريكية العالمية فى هذا المجال وضمان تحقيق مصالحها الذاتية.
ثانيا: تسييس التجارة والاقتصاد. أكدت الصين أن الولايات المتحدة تسىء استخدام الرقابة على الصادرات، وما فعلته مع هولندا واليابان هو لاستكمال جهودها فى إجبار بعض الدول على تشكيل تحالف محدود لاحتواء الصين، وهو ما أدى إلى تسييس القضايا الاقتصادية والتجارية والعلمية والتكنولوجية، وتقويض قواعد السوق والنظام الاقتصادى والتجارى الدولى بشكل خطر. ولذا، تعارض الصين بشدة هذا السلوك.
ثالثا: المراقبة عن كثب. أوضحت الصين فى البيان السابق أن هذا الاتفاق يقوض استقرار السلاسل الصناعية العالمية، ومن هذا المنطلق «ستتابع الصين عن كثب التطورات ذات الصلة، وستعمل على حماية حقوقها ومصالحها المشروعة». ويكشف هذا التصريح عن اتجاه الصين لدراسة تأثير التحالف السابق فى مصالحها، ومحاولة البحث عن بدائل له، أو آليات عقابية للرد عليه.
• • •
يلاحظ أن الاتفاق الأمريكى مع اليابان وهولندا سوف يترك تداعيات يمكن تفصيلها على النحو التالى:
أولا: تحقيق الاستقلالية الصينية: أدت القيود الوبائية، منذ عام 2020، والعقوبات الأمريكية المستمرة ضد الصين، إلى تبلور اقتناع لدى الأخيرة بأهمية تحقيق الاستقلالية فى صناعة الرقائق الإلكترونية، وهو الأمر الذى قد يؤدى إلى نتائج عكسية على خطط الولايات المتحدة الساعية إلى تقويض نفوذ الصين الاقتصادى والعسكرى والتكنولوجى.
وتأكيدا على ما سبق، فإن هناك عددا من المؤشرات التى تعكس قدرة الصين على الاعتماد على الذات من دون الحاجة إلى تبعية الغرب والاعتماد عليه لتطوير هذا القطاع، ومنها نجاح الصين فى تحقيق تطور تقنى هائل فى قطاعات بعينها، مثل برنامج الفضاء الصينى، والسكك الحديدية عالية السرعة، والاتصالات، وتكنولوجيا الجيل الخامس، وصناعة السيارات، كما يتوقع بنك جولدمان ساكس الأمريكى بأن الناتج المحلى الإجمالى للصين سيتجاوز الولايات المتحدة فى عام 2035.
ومن جهة أخرى، وعدت بكين بتجهيز حزمة مساعدات بقيمة 143 مليار دولار لتحفيز صناعة أشباه الموصلات، ولتمكين رواد الأعمال والشركات المحلية من مواجهة القيود الأمريكية. كما لا يخفى على أحد أن الشركات التى تتخذ من شانغهاى مقرا لها حققت العام الماضى إنجازا بارزا فى مجال إنتاج الرقائق الإلكترونية، وذلك بكميات كبيرة عبر استخدام «عملية 14 نانومتر» وحققت إنجازات فى آلات الطباعة الحجرية ورقائق السيليكون الكبيرة مقاس 12 بوصة ووحدات المعالجة المركزية وشرائح الجيل الخامس. ويضاف إلى ما سبق وجود عدد متنامٍ من الشركات التكنولوجية العاملة فى قطاع الرقائق الإلكترونية فى الصين، ومنها شركات سبريدترم وزاهوشين وهايسيليكون.
ثانيا: تكلفة مرتفعة على الشركاء: يلاحظ أن الاتفاق الأمريكى مع هولندا واليابان قد جاء بعد أن هددت واشنطن بفرض قيود على تصدير بعض المعدات المهمة للشركات الهولندية واليابانية. ومن جهة أخرى، أكد البيان الذى خرج من شركة (إيه إس إم إل) الهولندية أن دخول الاتفاق مع واشنطن حيز التنفيذ سيستغرق وقتا طويلا ولا يجب أن يعطل الجدول الزمنى للشركة فى عام 2023، وهو ما يؤشر على أن القيود الأمريكية لن تسرى إلا فى العام المقبل.
كما أن الشركات اليابانية والهولندية ستخسر مليارات الدولارات نتيجة لتوقف تعاملها مع الصين، فعلى سبيل المثال تحصل «طوكيو إلكترون» على نحو 25% من عائداتها من صادراتها إلى الصين، كما تبلغ إيرادات (إيه إس إم إل) 14% من الصين.
• • •
يلاحظ أن الاتفاق الثلاثى بين الولايات المتحدة وهولندا واليابان ما هو إلا أحد أشكال صراع القوى الكبرى بين الولايات المتحدة والصين، مع الأخذ فى الاعتبار أن الصين لن تكون وحدها الخاسر الوحيد من الاتفاق، كما تروج واشنطن، بل الشركات الهولندية واليابانية، والتى ستخسر عائدا كبيرا من صادراتها نتيجة وقف تعاملها مع الاقتصاد الصينى. ومن جهة أخرى، يتوقع أن تكثف الصين مساعيها لتحقيق الاستقلالية فى مجال إنتاج الرقائق المتقدمة، وذلك للرد على القيود الأمريكية المفروضة عليها.
النص الأصلى: